الفراغ، ذلك الرفيق الذي نتجنبه غالباً، أحد أعمق التحديات النفسية التي يواجهها الإنسان في عصرنا الحديث، في الوقت الذي يركض فيه الجميع وراء الأعمال والأنشطة اليومية، يصبح الفراغ شيئاً غير مرحب به، شيئاً يخشاه الكثيرون، قد يبدو من الوهلة الأولى أن الفراغ مجرد لحظة من السكون أو التوقف عن العمل، ولكنه في الواقع أكثر تعقيداً من ذلك، هو لحظة تعيدنا إلى أنفسنا وتضعنا أمام مرآة الحقيقة، مرآة تكشف لنا كل ما نتهرب منه طوال اليوم.
الإنسان بطبيعته يحتاج إلى الانشغال، لا يتعلق الأمر فقط بتحقيق أهداف أو ملء الوقت، بل هو سعي دائم للهروب من الوحدة الداخلية، الوحدة التي قد تكون مؤلمة إذا ما تركنا أنفسنا نغرق في تفاصيلها، تلك اللحظات التي نكون فيها بمفردنا، بعيداً عن كل المهام والمشاغل، قد تبدو وكأنها لحظات من العزلة، ولكنها في الحقيقة تكون فرصة للتواصل مع الذات.
ومع ذلك، لا يشعر الجميع بالراحة في تلك اللحظات الهادئة، لأن الفراغ يمثل لهم تحدياً، لا بسبب غيابه عن الأنشطة اليومية فحسب، بل لأنهم يخشون مواجهة أنفسهم في تلك اللحظات، من هنا تأتي الحاجة الملحة للانشغال المستمر، نبحث عن شيء لنسحب أنظارنا عن مشاعرنا الحقيقية، نغرق في العمل أو نغرق في عالمنا الرقمي، نتنقل من تطبيق إلى آخر، نتابع الأخبار، نرد على الرسائل، نحدث الآخرين عن حياتنا... وكل ذلك كي نتجنب الشعور بالفراغ، وكأننا نعيش في حالة من الهروب المستمر.
لكن، في عمق هذا الهروب يكمن سؤال قد لا نجرؤ على طرحه، ماذا لو توقفت لحظة واحدة؟ ماذا لو منحنا أنفسنا الفرصة للجلوس في صمت، لنفكر في من نحن وما نريد حقاً؟ هذه اللحظات قد تكون صعبة في البداية، لكن مع الوقت قد نجد فيها شيئاً من السكينة، شيئاً من الوعي الذاتي الذي يمكن أن يغير حياتنا. إن مواجهة الفراغ ليست دائماً شيئاً مؤلماً، بل يمكن أن تكون نقطة انطلاق نحو فهم أعمق لذواتنا، بل ربما نحو اكتشاف معنى حقيقي لوجودنا.
وبينما يتسارع العالم من حولنا ويغرق في الانشغال المستمر، تبقى اللحظات الصامتة هي الوحيدة القادرة على منحنا فرصة للتواصل مع أنفسنا، ليس بالضرورة أن تكون هذه اللحظات مليئة بالراحة المطلقة أو الفهم الكامل، ولكنها -على الأقل- تعطينا المساحة لتكون حياتنا أكثر وضوحاً. الفراغ، إذا تم التعاطي معه بحكمة، قد يصبح جزءاً من سلام داخلي نفتقده في وسط صخب الحياة.
[email protected]
www.shaimaalmarzooqi.com
0 تعليق