د. ناصر زيدان
شكَّلت القمة الأفريقية 38 التي انعقدت في عاصمة إثيوبيا أديس أبابا بين 15 و17 شباط/فبراير حدثاً دولياً فارقاً بامتياز. ففي المداولات والانتخابات كما في البيان الختامي الذي صدر عنها، عدد من الرؤى الجديدة التي يمكن البناء عليها للتأسيس لعمل أفريقي مشترك واعد، ولزيادة حجم تأثير القارة السمراء في المعادلات الدولية.
يمكن اعتبار فلسطين صاحبة النصيب الأوفر من المغانم السياسية للقمة، خصوصاً في هذه اللحظة السياسية والأمنية الحرجة التي يمرُّ فيها الشعب الفلسطيني المنكوب بقطاع غزة كما في الضفة الغربية، والمترافقة مع تحامل دولي قلَّ نظيره، حيث وصل الأمر برئيس أكبر دولة في العالم للمطالبة بتهجير هؤلاء من أرضهم، وتجاهل كل الحقوق البديهية التي أقرَّتها المواثيق العالمية والقرارات الأممية ذات الصلة وكلها تعترف للفلسطينيين بالحق في العيش بسلام على أرضهم التاريخية، وإقامة دولتهم المستقلة.
وحصة فلسطين الوازنة من غلال المؤتمر كانت خصوصاً بإجماع القادة الأفارقة على رفض اقتراح تهجير الفلسطينيين من أرضهم إلى الخارج، كما في المطالبة بمحاكمة القادة الإسرائيليين المسؤولين عن عملية الإبادة التي حصلت في قطاع غزة وفي الضفة الغربية وفي هذين المسألتين، يمكن إدراك الخلاف الجذري مع وجهة نظر الإدارة الأمريكية الجديدة وهذه الإدارة هي التي اقترحت عملية «الترانسفير» كما أنها فرضت عقوبات على محكمة الجنايات الدولية الدائمة وقضاتها، لأنهم أصدروا مذكرة اعتقال ضد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.
وما زاد من أهمية التضامن الأفريقي مع فلسطين، هو دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لحضور القمة وهو الرئيس الوحيد الذي حضر من خارج القارة، إضافة لأمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وبعض الضيوف من المنظمات الدولية وخطاب عباس أمام القمة سلَّط الضوء على الانتهاكات الإسرائيلية الصارخة وطالب بتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بموضوع اللاجئين.
قمة أديس أبابا كانت استثنائية بكل المقاييس وقد انتخبت بشفافية مطلقة رئيساً للمفوضية الأفريقية (وزير خارجية جيبوتي محمود علي يوسف) ونائبته الدبلوماسية الجزائرية (مليكة حدادي) وهي المرة الأولى التي يشغل الموقعين مسؤولان من دول عربية أفريقية والبيان الختامي الوازن الذي صدر عن القمة، لخص خطة لتفعيل العمل الأفريقي المشترك، بما في ذلك زيادة منسوب التجارة البينية بين الدول الأعضاء، ومحاربة الفقر والجوع والحدّ من التدخلات الخارجية في شؤون القارة.
ويمكن ملاحظة المقاربات الجديدة التي اعتمدتها القمة بوضوح، من خلال ما أورده البيان الختامي، حيث أشار إلى الاختلال الكبير في النظام الدولي القائم، وطالب بالتمثيل الصحيح لأفريقيا في المؤسسات الأممية، ودعا إلى احترام القيم الإنسانية بعيداً عن الاستغلال والهيمنة والخروج من مستنقع الصمت على الارتكابات التي تحصل ضد المدنيين في أكثر من مكان، بينما المؤسسات الإنسانية العالمية عاجزة عن معالجة هذه الأزمات، أو أن القوى الدولية الكبرى تمنعها من القيام بدورها على أكمل وجه وقد أكد عدد كبير من المُتحدثين على أن وضع شروط على كيفية تقديم المساعدات الإنسانية للمحتاجين غير مقبولة على الإطلاق.
ولعلَّ ما أكد على استثنائية القمة، تناول الملفات الأفريقية الساخنة بشفافية وبعيداً عن لغة المواربة والتخفّي وهو ما حصل في ما يتعلق بالمشكلة الناشئة بين الكونغو وراوندا، حيث تمَّ تعليق عضويتهما في الاتحاد الأفريقي، نظراً للأخطاء التي حصلت من قبل الدولتين، لاسيما في استهداف المدنيين وعلى ذات الوتيرة، تناول المجتمعون ملف الصراع القائم في السودان فلم تتم دعوة ممثلين عن السودان، تجنباً لإتخاذ موقف قد يكون منحازاً لأحد أطراف النزاع، بينما طالبت القمة من المتحاربين وقف القتال (خصوصاً في شهر رمضان الكريم) بما يحفظ حقوق وكرامة السودانيين، ويمنع كل أشكال الانفصال أو التقسيم.
بدا القادة الأفارقة أنهم يدركون مدى الأطماع الخارجية التي تستهدف دول القارة وهؤلاء يرفضون العمليات الانقلابية التي حصلت في بعض دول ساحل غرب أفريقيا، لكنهم بالمقابل لا يؤيدون التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية لهذه البلدان وفي ذلك إشارة واضحة الى التنافس الذي يحصل بين الفرنسيين والروس.
هموم القارة الكبيرة وضعت بمجملها على طاولة البحث في قمة أديس أبابا، لكن معالجة بعضها يحتاج لتعاون دولي أوسع، كما يحتاج لتفاهمات أفريقية – أفريقية تقلِّص مساحة التباعد القائمة بين عدد من الدول الأعضاء في الاتحاد، خصوصاً في الملفات الساخنة حول نهر النيل، وفي القرن الأفريقي كما في شمال القارة وغربها. لكن رغم كل ذلك، لا يمكن إخفاء التغييرات التي حصلت في القمة ومنها على وجه الخصوص تراجع تأثير القوى الخارجية على مجريات أعمال القمة وعلى المواضيع التي طُرحت فيها.
0 تعليق