كونيّة الإنسان المكذوبة - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

عبد الإله بلقزيز

انتهت، ظاهريّاً، الحقبة التي تماهى فيها مفهوم الإنسان بمفهوم المواطن، في فلسفة الحقوق في عهد الدّولة الوطنيّة الحديثة، فما عاد الأوّل يتمظهر في الثّاني ويستمدّ حقوقه من منظومة القوانين الوطنيّة، على نحو ما قرّرتْهُ فلسفةُ الحقوق تلك وطبّقتْه الدّولةُ الحديثة، وإنّما انفصل المفهومان وبات لكلٍّ منهما جغرافيّتُه الدّلاليّة والسّياسيّة المميَّزة. ربّما عادتِ البواكير الأولى لهذا التّحوّل إلى النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، مع ميلاد فكرة الفردانيّة متلازمةً مع نقد الدّولة والمجتمع، ولكنّ اكتمال ملامح ذلك التّحوّل انتظر فترةً ليستقيم أمرُه على الوجه الذي سيستقيم عليه، فعلاً، في نهاية سنوات الأربعينات من القرن العشرين. لم يتراجع مفهوم المواطن والمواطَنة، غِبّ انطلاق هذا التّحوُّل، إذ ظلّ يُشار به إلى علاقةٍ سياسيّة لم تنقطع داخل إطار الدّولة الوطنيّة في بلدان الغرب، على الرّغم ممّا أصاب نموذج هذه الدّولة من تأزُّمٍ سياسيّ حادّ، لكنّ مفهوم الإنسان بدأ يزاحم مفهوم المواطن على السّيادة في الحقل التّداوليّ حتّى لكأنّه بَدَا كما لو أنّ السّيادة تلك انتهت إليه واستتبّ لها الأمرُ في عهد العولمة، عهد «ما بعد» الدّولة الوطنيّة... كما يطيب لبعض نُعاتِها من الكتّاب النّيوليبراليّين أن يصفوه!
ما عاد الحديث يجري عن حقوق المواطن داخل دولته الوطنيّة، بل صار يدور على حقوقٍ لإنسانٍ لا يُنْظَر إليه بوصفه منتمياً إلى دائرةٍ وطنيّة أو قوميّة، بل بما هو كونيٌّ عابرٌ للحدود. إنْ توخّينا الدّقّة أكثر نقول: إنّ الذين يسيطرون في العالم ويحكُمون مؤسّساته ويقرِّرون مصيره (الغرب الأمريكيّ- الأوروبيّ) لا يلتفتون إلى مفهوم المواطنة إلاّ في نطاق دُولهم بينما يخاطبون العالم الخارج عن حدودهم (مجتمعات الجنوب ودوله) باسم حقوقٍ لا تسري أحكامُها على منظوماتهم القانونيّة القوميّة التي تظلّ متمسّكة بمبدأ السّيادة الوطنيّة تمسّكاً لا هوادة فيه.
إنّ هذه «العالميّة» المزعومة لحقوق الإنسان، التي تزخر بها المعاهدات والوثائق والخطابات الإيديولوجيّة، تصطدم بحقيقة الانغلاق القوميّ للأنظمة القانونيّة في دول الغرب وبميلها إلى الاستقلال عن أيّ مرجعيّة أخرى عليا فوق- قوميّة. لذلك يبدو الخطابُ الكثيفُ حولها مصروفاً لأهدافٍ أخرى لا علاقة لها بالحقوق خلافاً لِمَا يوحي به! حقوق الإنسان، في خطاب العولمة النّيوليبراليّة، حقوقُ كائنٍ متعالٍ عن التّعيين الجغرافيّ السّياسيّ والسّياديّ، عابرٍ للحدود والأوطان والمنظومات التّشريعيّة الوطنيّة والسّياديّة. والحقوقُ هذه يُزْعم أنّها «كونيّة» وأنّ مرجعها ليس إلى منظومات القوانين الوطنيّة للدّول، بل إلى «القانون الدّوليّ» الذي يرادُ لقسمٍ مستَضعَف من العالم أن يلهج به وحده ويكيِّف نفسَه معه وينتظم تحت سقفه!
نعم، صحيحٌ أنّ فكرة الإنسان الكونيّ أو الكونيّة الإنسانيّة استمرّت تخامر المفكّرين والفلاسفة، منذ أزمنةٍ قديمة، بعد أن لازمتْ الرّسالاتِ الدّينيّةَ التّوحيديّة (خاصّةً المسيحيّة والإسلام) التي خاطبتِ الإنسانَ خارج حدود نشأتها («الأمم» في المسيحيّة و«العالَمين» في الإسلام)، وصحيح أنّ الفكرةَ شهِدتْ على اندفاعةٍ لها كبيرة، في العصر الحديث، مع انتشار الفكرة الإنسانويّة ومع فلسفة إيمانويل كَنْت...، لكنّ التّعبير عنها سياسيّاً وقانونيّاً ومؤسّسيّاً ظلّ أمراً في حكم الامتناع، خاصّةً مع صعود الظّاهرة القوميّة منذ القرن الثّامن عشر وتوطُّدِها بميلاد الدّولة- الأمّة.
وما استطاعت ظاهرتان نَزّاعتان إلى تخطّي الحدود القوميّة - هما الرّأسماليّة و«الأمميّة» الشّيوعيّة - أن تجسِّدا الفكرةَ ماديّاً ولا كانتِ العولمةُ لِتَقْوى على ذلك، فالنّزعة القوميّة لم تبارح أيَّ دولةٍ بما في ذلك الدّول الغربيّة الكبرى التي ظلّت تَلْهج بأُزعومة الكونيّة الإنسانيّة هذه. من يشكّ في هذا، عليه أن يسأل لماذا تتفنّن هذه الدّول (الغربيّة) في إقفال حدودها أمام الإنسان الآتي إليها من خارج ديار الغرب؟ ولماذا ترفض دولٌ غربيّة الانضمام إلى معاهدات، أو التّوقيع على قيام مؤسّسات بدعوى عدم جواز خضوعها وخضوع مواطنيها لأحكام قوانين غير قوانينها الوطنيّة؟
ما يزيد من معدّل انفضاح هذه الأكذوبة عن كونيّة حقوق الإنسان أمران تَلاَزما، طويلاً، في السّياسات الغربيّة تجاه هذه المسألة هما: نهج سياسة المعايير المزدوجة، وتجاهُل حقوق الإنسان في أصقاع عدّة من العالم. فأمّا كونُها سياسات نزّاعة إلى اعتماد أسلوب الازدواج في المعايير فالقرائن على ذلك لا تُحصى: في التّمييز بين الحقوق والمصالح، هنا وهناك، وكيْلِها بمكياليْن وحرمانِ قسمٍ من العالم ممّا هو معترَفٌ به لقسمٍ آخر منه، وفي تأويل القوانين على مقتضى ذلك التّمييز وفرْضِ أحكامها بالقوّة على من يقع استثناؤُها من الشّعوب والأمم والدّول من الحقوق التي تتمتّع بها مجتمعات «الرّجل الأبيض»!
وأمّا تجاهُل حقوق الشّعوب في أرضها وثروتها وسيادتها - وهي من صميم حقوق الإنسان - فتكاد أن تكون عقيدةً سياسّة في الدّول الغربيّة كلّما تعلّق الأمر فيها بحقوق شعوب من الجنوب في تحرير أراضيها من الاحتلال الأجنبيّ، أو في التّمتّع بسيادتها واستقلال قرارها الوطنيّ. وكم كوفئ المعتدي - من قِبَل دول الغرب - على عدوانه كما لو كان هو صاحب الحقّ! إنّ الحيْف المَهُول الذي يسكن السّياسات الغربيّة ويمنعها من رؤية حقوقٍ للإنسان خارج ديارها يُفْصح عن ثقافةٍ عميقة عنصريّة واستعلائيّة الإنسان فيها هو، بالتّعريف، الإنسان الغربيّ الذي يحقّ له - منفرداً - أن يتمتّع بالحقوق الإنسانيّة كافّة! أين كونيّة الإنسان، إذن، في هذا الخطاب؟!

[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق