محمود حسونة
نعيش في عالم غريب، لا يحكمه المنطق، شديد التقلب، كل يوم هو في حال، ملامحه تتغير ما بين غمضة عين وانتباهتها، أصدقاء الأمس قد يصبحون اليوم أعداءً، والعكس صحيح، تحالفات تنهار وتحالفات أخرى تتشكل، قيم تتلاشى وأخرى تظهر، دول تتحكم في مصير دول وتدفعها عن سبق إصرار إلى الهاوية، دول تتوسع ودول تنكمش، إمبراطوريات الأمس أصبحت اليوم كومبارس في ملعب السياسة الدولية، وإمبراطوريات اليوم تعيش القلق والخوف من أن يتبدد سلطانها وتتراجع مكانتها لحساب دول تقوى وتتقدم، شخصيات تأتي من العدم لتتصدر نشرات الأخبار وأخرى كانت ملء السمع والبصر تختفي وتصبح سيرتها صفحة في كتب التاريخ.
قادة يحاكمون قادة، ودول تهدد دولاً، وشعوب تتنمر على شعوب، شعوب تنتفض وتثور حلماً بالأفضل ثم تستيقظ نادمة بعد أن استبدلت الأسوأ بالسيئ. التغيير سنّة الحياة وسنّة الكون ولكن ينبغي أن يكون تدريجياً في سياقه الطبيعي، أما الانقلاب المفاجئ من الضد إلى الضد فإنه لا يخلف وراءه سوى صدمات شعبية وأزمات سياسية ولذا يكون الاستقرار حلم وأمل شعوب الدول المضطربة، ينظرون إلى الدول المستقرة بعين الحسد والإعجاب ويتمنون لو كانوا من أبنائها.
منطقتنا عانت تاريخياً وتعاني آنياً من التقلبات السياسية سواء داخل بعض دولها أو في محيطها الإقليمي أو العالمي، مرت بالكثير من الأحداث الفاصلة، لن ننسى غزو صدام حسين للعراق والذي خلخل ثوابت العروبة ما بين عشية وضحاها وسيظل التاريخ يحكي عن تفجيرات 11 سبتمبر 2001 والتي غيرت العالم وتسببت في إشعال حروب وقهر شعوب، فما حدث في أفغانستان والعراق ما زال ماثلاً أمام الأعين ومشاهده ستبقى في الأرشيف الإلكتروني العالمي لمن يريد الاطلاع والتعلم، تتناقلها الأجيال.
كثير مما يحدث في العالم على مدار أكثر من عقدين ليس سوى توابع لزلزال 2001، ما حدث في منطقتنا من فوضى هدامة وعدت بها كونداليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا السابقة محاوِلة الإيهام بأنها خلاقة، هو من التوابع التي استمرت تزلزل الأرض العربية، وتجددت في صورة تمرد الخريف العربي الذي أسقط أنظمة وخلخل دولاً وأذاق شعوباً مرارة الهجرة والنزوح ولم تنج منه سوى الدول المستقرة والقوية والشعوب الواعية التي رفضت الارتهان لإرادة المتآمرين والخنوع لترهيب المتأسلمين أو التي أبت أن تسقط وأفشلت مخططات من يضمرون للمنطقة الشر ونجحت في استعادة ذاتها.
السابع من أكتوبر 2023 من الأيام الفاصلة، قبله سادت حالة من الهدوء الحذر وخلاله حدثت عملية طوفان الأقصى وبعده جرف الطوفان المنطقة إلى حرب متوحشة خاضتها إسرائيل انتقاماً بدعوى حق الدفاع عن النفس، تجاوزت بها كل الحقوق الإنسانية والقوانين الدولية، دمار شبه كامل لقطاع غزة واستهداف لكل ما فيه من مبانٍ وكل من فيه من بشر وكائنات حية دون تمييز، حصيلة مفجعة من القتلى والجرحى، حرب تم فيها استخدام كل أنواع الأسلحة وكل وسائل التجويع والعزل والحصار.
وبعد 15 شهراً من القصف والقتل كانت الهدنة المهددة كل الوقت بالاختراق ومنذ بداية الحرب كانت الدعوات الإسرائيلية لتهجير أهل القطاع الذين فضلوا الموت على التخلي عن الوطن، وبعد الهدنة علت نبرة المطالبة بالتهجير والتي لم تصدر هذه المرة من إسرائيل فقط بل تبنتها الإدارة الأمريكية بأعلى مستوياتها، الرئيس ترامب بنفسه وهي الدعوة التي أربكت المنطقة وخلطت الحسابات وهددت بمحو القضية الفلسطينية من الوجود، دعوة لاقت تهليلاً إسرائيلياً ورفضاً عربياً ودولياً، ووضعت أمريكا وإسرائيل في مواجهة العالم الذي يعي أن أمن إسرائيل واستقرار الشرق الأوسط لن يتحقق سوى بحل الدولتين.
الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا، سلسلة من المفاجآت التي غيرت مسار علاقات دولية وسببت أزمات اقتصادية وسياسية، بدأت قبل ثلاث سنوات وأسبوع كعملية روسية خاصة في أوكرانيا لتنقلب إلى حرب تشارك فيها أمريكا وأوروبا بالدعم غير المحدود لأوكرانيا، دعم بالسلاح بما في ذلك بعيد المدى ودعم بالمال ودعم بالقرار السياسي وبالعقوبات الاقتصادية وبالدعاية الإعلامية وبالعزل الرياضي والفني لموسكو، التحالف الأوروبي الأمريكي ضد روسيا ليس مستحدثاً، وموسكو منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية هدف للغرب، واستقطاب العديد من دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى المعسكر الغربي لم يكن خبط عشواء وبعد عودة ترامب لم يبق الوضع على حاله، بل انقلبت أمريكا على الثوابت ومدت اليد إلى روسيا وسحبت اليد التي ظلت ممدودة منذ اندلاع الحرب مع أوكرانيا وهو التطور الذي ألقى بظلال على العلاقات الأمريكية الأوروبية المرتبكة.
وبعد أن كان زيلينسكي مدللاً لدى إدارة بايدن أصبح «ديكتاتوراً من دون انتخابات» حسب وصف ترامب له، مطالباً إياه بتسديد 350 مليار دولار أو نصف معادن بلاده النادرة، أمريكا أسهمت في استمرار الحرب في أوكرانيا واليوم تريد إطفاءها بقرار أمريكي روسي يتجاهل المخاوف الأوروبية ويفرض ما يريد على كييف وهو الموقف الذي يؤكد بشكل جلي أن العالم لا يثبت على حال بعد أن أصبح بالإمكان أن يتحول حليف الأمس إلى عدو اليوم والعكس صحيح. التغيرات والانقلابات كثيرة على المسرح الدولي، وعلاقة أمريكا بالعديد من الحلفاء تتبدل، وكأنها تصيغ عالماً جديداً هي التي أرست قواعده بعد الحرب العالمية الثانية، عالم ليس للمنظمات الدولية فيه الوزن الذي كان، عالم بتحالفات جديدة وقيم مختلفة.
[email protected]
0 تعليق