لم تخضع المحكمة الجنائية الدولية للتهديد والوعيد والضغوط بعد أن قدم المدعي العام الدولي كريم خان طلبات إصدار مذكرات اعتقال في مايو الماضي بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، وقررت وبعد سبعة أشهر من المداولات وعمليات التحقيق وإجماع قضاتها ال18 إصدار أوامر الاعتقال بحق الاثنين، إضافة إلى قائد الجناح العسكري لحركة حماس محمد ضيف.
التهم الموجهة إليهما تتناول الضلوع في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وقد وجدت المحكمة أن «السلوك المزعوم لنتنياهو وغالانت يتعلق بأنشطة الهيئات الحكومية الإسرائيلية والقوات المسلحة ضد السكان المدنيين في فلسطين، وتحديداً المدنيين في غزة»، وأوردت الأسباب المتعلقة بجرائم الحرب المرتكبة ضد المدنيين مثل «الحرمان من الماء والغذاء والعقاقير والإمدادات الطبية فضلاً عن الوقود والكهرباء»، إضافة إلى «التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، كذلك فإن سلوكهما حرم جزءاً كبيراً من السكان المدنيين من حقوقهم الأساسية، ومنها الحق في الحياة والصحة، وإن السكان استُهدفوا على أساس سياسي أو وطني أو كليهما».
ما إن صدر القرار حتى قامت قيامة إسرائيل والولايات المتحدة، وكأنه نزل عليهما كالصاعقة، وتتالت التصريحات والمواقف التي تتهم المحكمة كما هي العادة ب«معاداة السامية» و«عدو الإنسانية» بالنسبة لنتنياهو، و«الأمر الشائن» كما وصفه الرئيس جو بايدن، في حين توعد مايك والتز، مستشار الرئيس المنتخب دونالد ترامب للأمن القومي ب«رد قوي» على المحكمة في يناير المقبل، معتبراً أنها «لا تحظى بأي مصداقية».
أما في إسرائيل فكان هناك إجماع من الحكومة والمعارضة على رفض القرار، فالرئيس اعتبره «مشيناً»، ووزير الخارجية وصفه ب«اللحظة السوداء»، ورئيس الكنيست اعتبره «محاولة لنزع الشرعية عن وجود إسرائيل»، في حين دعا وزير الأمن القومي بن غفير إلى فرض السيادة على الضفة الغربية، واعتبره «عاراً»، أما الكاتب أريئيل كاهانا فقال «إن مذكرة الاعتقال هي سيانريو يوم القيامة الذي كان نتنياهو يخشاه طوال هذه السنوات حتى أصبح حقيقة»،
وكتبت الصحفية الإسرائيلية دفنا ليال «إنها ضربة سياسية لا يمكن التقليل من أهميتها، وهذا يعني أن نتنياهو وغالانت لن يتمكنا من الوصول إلى 124 دولة دون المخاطرة باعتقالهما».
لكن هل قرارات المحكمة الجنائية الدولية ملزمة، ويمكن تنفيذها؟، بداية، بعد الآن لا يمكن لأي دولة الادعاء بأن إسرائيل لا تنتهك القانون الدولي والإنساني، أو أنها لا ترتكب جرائم حرب، ثم إن هذه الخطوة تمثل جزءاً من العدالة التي كان يجب أن تتحقق للفلسطينيين منذ أمد بعيد.
إن قرارات المحكمة تصبح ملزمة التنفيذ بمجرد صدورها بالنسبة لجميع الدول الأعضاء ال124 في «معاهدة روما»، وبالتالي فإن سلطات هذه الدول ملزمة باعتقال نتنياهو وغالانت في حال دخولهما أراضيها.
لكن لا بد لدول العالم أن تتعامل بجدية مع قرار المحكمة كي تأخذ العدالة مجراها بحق كل من يرتكب جرائم ضد الإنسانية، وعدم السماح لأحد بالإفلات من العقاب مهما علا شأنه، وعدم التدخل في قرارات المحكمة، أو ممارسة ضغوط على قضاتها أو مسؤوليها، لأن ذلك يتنافى مع الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة والقيم الإنسانية، ويفتح الباب أمام ارتكاب جرائم وعمليات إبادة.
والغريب وما يؤكد منطق الازدواجية أنه عندما أصدرت المحكمة في مارس 2023 مذكرة اعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هللت لها الولايات المتحدة، واعتبرها الرئيس بايدن «نقطة قوية للغاية»، وقال: «لقد ارتكب جرائم حرب»، أما بالنسبة لنتنياهو وغالانت فإن الأمر بالنسبة له مختلف، لأنهما كانا يمارسان «حق الدفاع عن النفس» بقتل نحو 50 ألف مدني وإصابة أكثر من 100 ألف معظمهم من النساء والأطفال.
0 تعليق