في توقيت واحد نشبت ثلاثة انفجارات منذرة بانقلابات استراتيجية عميقة، كأننا أمام زلازل تضرب بنية النظامين الإقليمي والدولي.
مركز الانفجارات والزلازل يقع في شرق العالم العربي، حيث تتمدد الحروب في جنباته وتهدده في صميم وجوده.
الأزمة السورية تطرح تحديات وجودية قد تغير من خرائط الشرق الأوسط وسيناريوهات الفوضى ماثلة.
هذا هو الانفجار الأول.. وفي خلفيته تداعيات حربي غزة ولبنان.
التصعيد في الحرب الأوكرانية بالتهديدات والتهديدات المضادة نذير آخر بانفلات واسع قد يفضي إلى الوقوع في الفخ النووي.. هذا انفجار ثانٍ محتمل.
بدا من بعيد بالشرق الآسيوي تغير جوهري محتمل في حسابات وموازين القوى في أزمة الساعات الست، التي أصابت كوريا الجنوبية بذعر على مستقبل الديمقراطية فيها.
للوهلة الأولى بدا أنها أزمة داخلية ترتبت على فرض الأحكام العرفية، التي سرعان ما ألغيت بتصويت البرلمان ضد قرار الرئيس.
بنظرة أخرى، فإننا أمام أخطر حدث يهز ركائز الاستراتيجية الأمريكية في شبه الجزيرة الكورية، حيث الصراع على المستقبل مع التنين الصيني.
هذا انفجار ثالث يمس بالعمق قواعد وموازين الصراع الدولي بين الولايات المتحدة والصين.
في الأزمة الأولى، الأكثر اشتعالاً وخطورة، بدا التزامن ما بين وقف إطلاق النار في لبنان والهجوم المباغت على حلب من جانب جماعات مسلحة تدعمها الاستخبارات التركية وتوصف دولياً بالإرهابية داعياً للتساؤل عن أسبابه ودواعيه.
منع تمرير السلاح عبر الحدود السورية إلى حزب الله داعٍ رئيسي، لكنه لم يكن كافياً بذاته لتبرير اضطلاع أنقرة بهذا الدور، الذي يناقض ما أقدمت عليه من قطع علاقاتها الاقتصادية مع الدولة إسرائيل على خلفية حربيها في غزة ولبنان!
ببرغماتية مفرطة حاول رجب طيب أردوغان أن يستثمر في حروب المنطقة لتعويم دوره الإقليمي من جديد على حساب اللاعب الإيراني.
أراد أن يصفّي حساباته مع بشار الأسد، الذي رفض تطبيع العلاقات قبل انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية.
إنه طلب مشروع تماماً، لكنه لم يتحسب للمتغيرات المستجدة في صفوف حلفائه الإقليميين بعد وقف إطلاق النار في لبنان.
سقطت حلب وحماة دون قتال تقريباً ولا يستبعد أن تلقى حمص مصيراً مماثلاً.
لم يُخف أردوغان حجم تدخله بتصريح معلن: «هناك مرحلة جديدة في سوريا يجري إدارتها بهدوء».
دعا إلى نوع من العودة إلى تفاهمات آستانا لوقف التصعيد في سوريا مع الحليفين الافتراضيين السابقين، روسيا وإيران.
لا يبدو أنه مطمئن تماماً إلى ما قد يحدث غداً على مسارح القتال ويطلب تفاوضاً مع الأسد للحصول على شرعية ما لأية توسعات تركية داخل الأراضي السورية بذريعة محاربة «الإرهاب الكردي».
السيناريوهات مفتوحة على المجهول، شرعية النظام تآكلت من دون أن تكون قوة الغزو مرشحة لاكتساب أية شرعية.
في الأزمة الثانية، بدا توجه جو بايدن للتصعيد بالحرب الأوكرانية مقصوداً بذاته لإرباك تعهدات دونالد ترامب إنهاءها بمجرد دخوله البيت الأبيض.
بعد طول تحفظ سمح بايدن باستخدام الصواريخ البالستية الأمريكية طويلة المدى لضرب الأراضي الروسية من أوكرانيا.
أراد بالضبط بالفعل وردّ الفعل قطع الطريق أمام ترامب للوصول إلى أية تسوية مع الرئيس الروسي فلاديميربوتين.
في مساجلات القوة والسياسة حاول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن يجد لنفسه مخرجاً قبل أن يتولى ترامب مهامه الرئاسية معلناً أن «المرحلة الساخنة قد تنتهي إذا أصبحت أراضي أوكرانيا غير المحتلة تحت مظلة الناتو».. وأنه «مستعد أن يتفاوض على إعادة الأراضي الخاضعة لروسيا حالياً بطريقة دبلوماسية».
كانت تلك محاولة في الوقت بدل الضائع لإقناع بايدن بضم أوكرانيا لحلف «الناتو» وإقناع ترامب في نفس الوقت بأنه منفتح على تسوية تنهي الحرب!
إننا أمام أوضاع قلقة تطرح الأسئلة المتفجرة كلها دفعة واحدة: ما مستقبل حلف «الناتو» والأمن الأوروبي والعلاقات الأمريكية الروسية وطبيعة النظام الدولي نفسه في ظل حقائقه المتغيرة؟
في الأزمة الثالثة، لم يكن تراجع الرئيس الكوري الجنوبي بضغط من البرلمان والشارع إيذاناً بنهاية ديمقراطية سعيدة. الأزمة ممتدة بقدر ما عبرت عن صدامات محتملة حول الاستراتيجيات الأمريكية في شبه الجزيرة الكورية.
كالعادة ادعت واشنطن أنها فوجئت بما حدث في العاصمة سيؤول رغم العلاقة المتميزة التي تربط بايدن ب«الصديق العظيم».
بحسابات القوى الداخلية، فإن المعارضة لا يتوفر لها أغلبية الثلثين في البرلمان اللازمة لمحاكمته لعزله.
إنها أزمة معلقة ومرشحة للتمدد.
بحجم التغلغل الأمريكي يوجد في كوريا الجنوبية أكبر قاعدة عسكرية في الخارج تضم نحو (30) ألف ضابط وجندي وتوفر لسيؤول غطاء نووياً لطمأنتها في مواجهة هواجس القنابل النووية والبرامج الصاروخية لجارتها الشمالية.
يلفت الانتباه هنا أن لدى ترامب شكوكاً معلنة حول تكاليف القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية. هكذا تدخل الأزمة الكورية الجنوبية في صلب الصراع الأمريكي- الصيني، خاصة بعد تصاعد الدور العسكري المتنامي لبيونغ يانغ في الحرب الأوكرانية.
إننا أمام انعكاسات وتداعيات خطيرة ومحتملة على السياسة الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادي على مرمى البصر.
بصياغة أخرى، فإن العالم يتغير حولنا والإقليم تضربه سيناريوهات الفوضى من دون أن يكون هنا تنبُّه كافٍ لمكامن ومواطن الخطر المحدق.
0 تعليق