كان آرنست همنغواي يقارن بين الكاتب والبئر، والبئر هنا هي خزّان الثقافة الذي يمدّ الكاتب بالطاقة الأدبية والإبداعية، ذلك الخزان الذي كان يتألف عند صاحب (لمن تقرع الأجراس) من قائمة روائيين وموسيقيين ورسّامين يملؤون تلك البئر التي يجب أن لا تنضب.
يقول الروائي النوبلي الذي أنهى حياته بطلقة في رأسه من بندقية صيد «إنه يمكن أن نقارن الكاتب بالبئر. هناك أنواع من الآبار بقدر ما هنالك من الكتّاب. المهم في البئر أن تجد فيها ماءً طيباً، ويفضل أن تأخذ منها بانتظام لا أن تسحب كل مياهها حتى تجف، وتنتظر إلى أن تعود فتمتلئ»، (حوار جورج بلتمون، (مجلة باريس رفيو)، عدد ربيع 1958).
في الحوار نفسه وفي مكان آخر منه يقول همنغواي: «إن البئر هي مكمن عصارة الكاتب، ولا أحد يعرف مم تتكوّن، والكاتب ليس استثناءً. ما يعرفه الكاتب هو ما إذا كانت هذه البئر لديه أم لا. ما إذا كان عليه أن ينتظر رجوعها».
ولكن كم من المياه كان في بئر همنغواي؟ هنا، يسأل صحفيّ الحوار همنغواي قائلاً: «من الذين تعتبرهم أسلافك في الأدب.. الذين تعلّمت منهم أكثر ما تعلّمت؟» يجيبه صاحب «الشيخ والبحر» بأنه سيحتاج يوماً كاملاً ليتذكر الجميع، ومع ذلك خذ أولئك الذين هم ماء بئر همنغواي: يقول: «مارك توين، فلوبير، ستندال، باخ، تورجينيف، تولستوي، دوستوفسكي، تشيكوف». ويعدّد ما بين روائيين وشعراء وموسيقيين ورسّامين أكثر من 30 اسماً، ثم يشعر بنوع من الخجل ويقول: «سيبدو الأمر كما لو أنني أدّعي سعة اطّلاع أنا لا أمتلكها حقيقة. إنني أحاول أن أتذكر كل من ترك أثراً في حياتي وعملي».
تلك كانت بئر الرجل الذي كان ملاكماً، ومراسلاً صحفياً عسكرياً، وشرهاً في الطعام، وبخاصة الأكل الفرنسي الذي لم يشبع منه حين أقام فترة من حياته في باريس، وبقدر ما كان يحب الطعام كان يحب القراءة أكثر. يقول: «أقرأ كل عام بعضاً من شكسبير. الملك لير دائماً. تبهج المرء حين يقرؤها، القراءة شاغل دائم، ولذة دائمة. أقرأ الكتب طوال الوقت. ودائماً لديّ منها الكثير، وأدّخر منها مؤونة فلا تعوزني أبداً».
ذات يوم، وفيما علقت في حوار أجبرت عليه مع كاتب أو أنه شاعر يعمل في حقل الصحافة الثقافية العربية، وفجأة، قد عراه انفعال احمرّ له وجهه، قال غاضباً: «أنا لا أقرأ». قلت له: هوّن عليك، ربما لا تقرأ الكتب. كتب الورق التي نعرفها منذ أعمارنا الصغيرة، فقال غاضباً مرة ثانية: بل لا أقرأ أي شيء. ثم رأيته يغادر مثل طاووس منتوف الريش.
كان الأمر في كل هذه القصة يتعلّق بتلك البئر. والفرق دائماً بين كاتب وآخر أن هذا حفّار آبار، وذاك حفّار قبور، أو أنه أشبه بمن يحفر قبراً للكتابة التي تعيش على القراءة، والقراءة التي هي الماء.. أقدم بلسم في الأرض.
[email protected]
0 تعليق