ليس برتراند راسل وحده من افتتن في مرحلة معينة من عمره، في فترة الشباب خاصة، بفكرة أو موقف أو فلسفة، ليغادرها بعد حين نحو فكرة أخرى وجدها أكثر صواباً وكمالاً من تلك التي شغفته في البداية. كثيرون من الناس من مختلف الثقافات يمرون بالرحلة نفسها، وليس شرطاً أن يكون المرء مفكراً أو فيلسوفاً مثل راسل ليعيش هذه التجربة.
يكفي المرء أن يكون شغوفاً بالمعرفة وباحثاً عنها لكي تتغير قناعاته بمرور الوقت، حين يوقن أن ما اعتقد أنه صحيح في مرحلة من عمره لم تزكه الحياة بتحولاتها، أو أن يقوده شغفه بالمعرفة إلى ولوج دروب جديدة فيها تقوده إلى ما هو أفضل وأصحّ، أو على الأقل هكذا يتراءى له.
وقد لا يستقر المرء على ما انتقل إليه من موقف أو رؤية، بعد أن غادر قناعة سابقة، فلربما تقوده الحياة، مرة أخرى، إلى تبني رؤية مختلفة غير تلك التي كان عليها في مرات سابقة، وقد يحدث أيضاً أن يُكوّن المرء قناعاته من مزيجٍ من أفكار ومعارف أخرى تعلمها، فينتقي من هذه المدرسة أو تلك ما يراه منسجماً مع رؤيته، ويزواج بينه وبين ما راق له في مدارس أخرى.
لعل في سيرة برتراند راسل الفكرية ما يقدّم لنا نموذجاً جيداً يستفاد منه. وفي أحد مواضع الكتاب الذي وضعه الدكتور رمسيس عوض عن راسل بعنوان «برتراند راسل أمام المحاكم الإنجليزية والأمريكية» وقف عند تحولات راسل الفكرية، وهو يعرض للقارئ سيرته. فراسل الذي تفوّق في دراسة الرياضيات في الجامعة، سرعان ما هجرها بعد تخرجه، لأنه وجد فيها «ضرباً من الأحاجيّ والألغاز»، حتى أنه باع كل ما لديه من كتب الرياضيات، ليتجه إلى الفلسفة، حيث تعلق، في البداية، بالفيلسوف الألماني كانط، ولكنه سرعان ما شعر أن فلسفة الرجل أوقعته في «وهدة الطلاسم الميتافيزيقية المحيرة»، وهو الذي يحب الوضوح ويكره الغموض، وعن ذلك قال: «أحبّ التحديد. أحب الخطوط الواضحة، وأمقت الغموض المستغلق».
بعد أن غادر فلسفة كانط وقع في حبّ فلسفة هيجل، الألماني هو الآخر، وقاده إليها صديق يعدّ رائد الهيجيلية في إنجلترا. راق له في الهيجيلية نظرتها للكون كوحدة واحدة لا سبيل إلى الفصل بين أجزائها، ويقرّ راسل بأن تاثير هيجل عليه امتد طويلاً، قبل أن يتاح له قراءة نصوصه الأصلية ليصدم «بحزمة من الأفكار المضطربة».
راسل الذي بدأ حياته مؤيداً للاستعمار كناقل للحضارة للأمم «الجاهلة»، هجر هذا الرأي البغيض ليعكف على وضع كتابه «الطريق إلى الحرية» إبّان الحرب العالمية الأولى، نابذاً الاستعمار، بل وداعياً إلى اشتراكية الدولة كما وضعها ماركس.
0 تعليق