توقفنا لنرتشف قهوة الصباح على رصيف هذه المقهى العجيبة، فهي تجذب الانتباه إليها من بعيد بيافطة نبتة الكيف المعلقة على واجهتها.
عهد جديد في التعاطي مع نبتة الكيف
لعل ذلك احتفاء على الطريقة المحلية بتباشير عهد جديد أصبحت فيه زراعة وتجارة وتصنيع ونقل الكيف أمرا عاديا ومشروعا في هذه المنطقة المعروفة بعلاقتها التاريخية مع هذه النبتة.
نحط الرحال للتو بدوار ازداد بعد رحلة من تاونات إلى كتامة حيث نوجد الآن، مررنا بدواوير حقولها مخضرة بزارعة نبتة القنب الهندي، من دوار تافرنوت، فرسيوة، أسامر، ودوار المخزن وبني عيسي، وبني أحمد.
تضاريس صعبة بكتامة لا تترك خيارا اخر سوى زراعة الكيف
ما أن أدركنا منتصف فنجان القهوة حتى باغتنا شيخ مسن، خرج علينا من اللامكان، لكن على وجهه كان يحمل رسائل كثيرة من زمن ولى، بدا الرجل وكأن الأيام أضنته والساعات أرهقه.. تجاعيد وجهه تروي قصصا لمعاناة غامضة.. وعيناه تحملان مزيجا من الاستسلام وبقايا بريق من الأمل.
الشيخ حماد.. يُخزن آلام الماضي ويعيش قهر الحاضر
انتصب أمامنا هذا الشيخ وطلب منا بثقة وأدب أن نصغي إليه: “أوصلوا صوتي إلى الرباط”، قالها بصوت مبحوح ذي معنى يترجم الرغبة المحمومة في البوح والتوسل دفعة واحدة.
تحدث طويلا عن الظلم الذي يشعر به منذ أن دخل نظام تقنين القنب الهندي حيز التنفيذ.
الشيخ حماد يشير الى مساحة الارض المزروعة بالكيف
لم يكن تقنين الكيف كما تخيله حماد، الشيخ السبعيني، الذي أفنى عمره في زراعة هذه النبتة على قطعة أرض صغيرة لا تتعدى 200 متر مربع.
بالنسبة لحماد، كانت هذه السياسات الجديدة نعمة للبعض، لكنها نقمة كانت عليه، سعر الكيف بالكاد يكفي لتغطية احتياجاته الأساسية، إذ أن خمسين درهما للكيلوغرام تعد لا شيء أمام متطلبات الحياة التي باتت تتزايد وتثقل كاهله.
حماد يتعايش مع رزم الكيف في قلب منزله المتواضع
بدعوة من الشيخ، قررنا اكتشاف ما يخفيه وراء كلماته، قادنا إلى منزله المتواضع، حيث وجدنا عائلته تعاني في صمت، أبناؤه يكبرون دون أمل حقيقي في حياة أفضل، يعانون مثل والدهم من غياب الفرص والإحساس بالظلم، هنا، في قلب كتامة، حيث كانت الأرض يوما سخية، تبدو معاناته مثالا صارخا على ما يعيشه المزارعون الصغار في ظل هذا النظام الجديد.
وكأي مغربي أصيل يعرف أصول الضيافة، برغم العوز الظاهر، شملنا حماد بحفاوة وكرم رجال كتامة استقبلنا في منزله المتواضع وقدم لنا الشاي والحلوى، ومعهما مزحة المحب للحياة رغم منغصاتها: هل تريدون شايا بالنعناع أم بالعشبة؟.
كرم وجود وشاي وحلويات في بيت الشيخ حماد
الشيخ حماد علي بلحسن المهدي، رجل تجاوزت تجاعيد وجهه حدود الزمن ليصبح شاهدا على معاناة استمرت لأكثر من سبعة عقود، شيخ فلاح، في سن الثانية والسبعين، يعيش في دوار صغير ناء بجماعة عبد الغاية السواحل في كتامة، تلك المنطقة المعروفة عالميا بجودة نبتة الكيف “البلدية”، التي أصبحت جزءا من هوية المكان ومن حياة سكانه على حد سواء.
نشأ حماد في ظل هذه الأرض التي كانت يوما تبيض ذهبا، عاشت أسرته على عائدات زراعة الكيف، كانت الحقول الخضراء تعكس طموحاته وآماله، لكن مع مرور السنين، تغيرت الظروف، الأرض التي باضت يوما ما ذهبا يكفي لتأمين قوت يومه، أمست اليوم عاجزة حتى عن سد رمقه..
الشيخ حماد وقانون تقنين الكيف
وقف الشيخ حماد على سطح منزله المتواضع، ناظرا إلى الأفق الممتد، فيما تجتاحه أفكار متصارعة، ثم تحدث: “نظام تقنين القنب الهندي؟” قال بمرارة: بالنسبة له، كان هذا القانون مثل ضربة قاصمة، فبدلا من أن يفتح له أبوابا نحو حياة كريمة، زاد من معاناته وعمق تعاسته.
حماد متذمر من سعر الكيلو غرام الواحد من نبتة الكيف
في قلب حماد شعور عميق بالظلم، لا لشيء سوى أن حلمه الذي بني على زراعة الكيف أصبح سرابا، فهذا النظام الجديد الذي جاء ليعدله ويقننه، تركه متخلفا، بلا دعم، بلا فرص حقيقية للاستفادة من الزراعة المقننة، إنه شعور قاس بالخذلان وخيبة الأمل.
“كيف لي أن أعيش؟”، تساءل بصوت مرتعش، بيع محصول الكيف مقابل خمسين درهما للكيلوغرام لم يعد يكفي حتى لتغطية أبسط احتياجات الحياة اليومية.
الشيخ حماد انهكه الزمن وأضناه العيش
حياته الآن تحتضر في نضال مستمر ضمن معركة حامية الوطيس ضد ألد الأعداء المسمى فقرا، ثم مع الزمن، ثم قانون لم يأخذ في الحسبان أوضاع الفلاحين الصغار مثله، يشعر الشيخ حماد أنه أُهمل، وضاع بين قوانين لا يفهمها ومطالب حياة تزداد ثقلا يوما بعد يوم.
حماد اليوم، يعيش في دوار يضج بصوت الرياح التي تصفر وتولول في الحقول الصغيرة الفارغة، هذا الشيخ الذي عاش يروي تربة أرضه بعرقه، يجد نفسه وحيدا أمام مستقبل غامض.
تحمل ملامح وجهه الكثير من الحزن والأسى، معاناته هي قصة جيل كامل من الفلاحين الصغار الذين أُجبروا على مواجهة تغيرات قاسية دون دعم أو تقدير.
رغم الألم .. حماد يحمل في دواخله الأمل
في عيني حماد، لا تزال هناك تلك الشرارة الصغيرة من الأمل، ولكنه أمل مثقل باليأس، لا يريد سوى فرصة بسيطة للعيش بكرامة في سنواته الأخيرة، ليتذكره الناس بأنه كان مزارعا مكافحا، رجلا نبت في قلب الكيف، لكنه حُرم من حصاده.
وحين الشعور بالقهر في الحاضر من الطبيعي أن يتوسل المرء بأزهى قصص ومواقف الماضي، ولعل ذلك ما جعل حماد وهو يتحدث إلينا عن شظف العيش وتقلبات الحياة، يفتح صفحة من ماضيه المليء بالفخر بفتوحاته في عالم الحشيش، حيث أقر لنا بطلاقة: ” اشتغلت في زراعة البلدية “النوكعة” خمسين سنة ولم يسبق أن تم اعتقالي او توقيفي” مضيفا ” لقد كنت محترفا كما أجدادي”.
كتامة..الأرض تغيرت والفقر باق ومتمدد
كان الشيخ حماد، بملامحه التي حفرتها السنين، يرمق صديقه الشاب عبد اللطيف، صاحب المقهى، نظرات توحي بأكثر مما تقوله الكلمات.
بدفء الوالد وهمس العاجز، قال له: “تكلم يا عبد اللطيف، لا تصمت، هؤلاء سيوصلون صوتنا إلى الرباط، تكلم يا بني، إنها فرصتنا الوحيدة.”
صديق الشيخ .. ظل يراقب من بعيد قبل ان ينادي عليه حماد
كانت كلماته تهتز بين شفتيه، مليئة بالثقة والتوسل في آن واحد، الشاب عبد اللطيف، الذي كان طوال الحديث يراقب من بعيد بصمت، شعر بثقل الكلمات عليه، كأنها مسؤولية أُلقيت على كتفيه.
تشجع عبد اللطيف الدراز أخيرا، وببطء وهدوء، لكن عزمه كان واضحا في كل خطوة، بوجه مفعم بالتعب وقصة غير مرئية خلف عينيه، بدأ حديثه: “أنا عبد اللطيف، ابن هذا الدوار… شاب في الأربعين، لكني أشعر وكأنني عشت مائة عام من الانتظار.. هذه الأرض التي نزرعها لم تعد كما كانت، والمحصول الذي نبيعه لم يعد يعيلنا، نعيش بين وعود لا تصل وقوانين مجحفة تطبق علينا نحن الفقراء لتزيدنا بؤسا وضنكا.
ابراهيم: نعيش وعودا لا تتحقق
غادرنا المكان إلى وجهة مقبلة وفي الخاطر والذاكرة كلمات حماد وتقاسيم وجهه الناطقة بتفاصيل من التاريخ والجغرافيا، تحكي قصة التحولات التي تطال المجال وتؤثر في الناس، كأننا به أحد الشخوص الأسطورية في روايات عبد الرحمان منيف الملحمية، لكنها تروي قصة الإنسان هنا والآن بلسان مغربي مبين وبتوابل نبتت في هذه الأرض لا في غيرها.
لمزيد من التفاصيل، اضغط على الصورة لمشاهدة الروبورتاج كاملا
0 تعليق