يوسف أحمد المطوع*
تحتضن المناطق الحضرية في عصرنا الحالي نحو 4.4 مليار نسمة، وهو ما يعادل أكثر من نصف سكان العالم، مع توقعات بارتفاع هذا الرقم إلى ما يقارب 7 من كل 10 أشخاص على مستوى العالم بحلول منتصف القرن الحالي. ومن الواضح أن المدن تشكل عنصراً أساسياً في أزمة المناخ. وإضافة إلى ذلك، فإن سكان المناطق الحضرية هم الأكثر عرضة للكوارث المناخية، مثل الفيضانات وحرائق الغابات والعواصف وموجات الحر.
ووفقاً للبيانات السنوية التي نشرها تحالف «كلايمت تريس»، المبادرة البيئية الدولية، في مؤتمر«كوب 29» في العاصمة الأذربيجانية باكو، فإن المدن في آسيا والولايات المتحدة تنتج القسم الأكبر من انبعاثات غازات الدفيئة التي تؤجج التغير المناخي وتزيد من شدته. وتُنتج المناطق الحضرية 17 مليار طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، أو أكثر من 25% من الانبعاثات العالمية.
ويُحدث التغير المناخي تأثيراً مباشراً في الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، كما تتعرض المدن أيضاً لضغوط بسبب التصحر والجفاف. وأشار تقرير صادر عن البنك الدولي إلى أن تغيرات المناخ قد تؤدي إلى نزوح أكثر من 200 مليون شخص بحلول عام 2050.
ويترك التدهور البيئي أيضاً تأثيرات كبيرة في الصحة العامة، حيث يؤدي التلوث المتزايد إلى ارتفاع معدلات أمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب والالتهابات. ويموت سنوياً نحو 7 ملايين شخص في سن مبكرة نتيجة أسباب متعلقة بتلوث الهواء. وتسبب الضباب الدخاني الذي انتشر في دلهي مؤخراً بإغلاق المدارس والمكاتب، مع زيادة عدد حالات دخول المستشفيات من السكان المتضررين. وتشهد مناطق في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا زيادة في حالات الأمراض التنفسية، مثل الربو والتهاب القصبات، وذلك بسبب الغبار والعواصف الرملية الناجمة عن تدهور الأراضي.
ويُعد الاحتباس الحراري أكبر خطر وجودي يهدد البشرية اليوم، لذا يجب علينا التصرف فوراً، إذ إن التأخر في بذل الجهود لخفض الانبعاثات سيكون له عواقب وخيمة على ارتفاع منسوب مياه البحار، والأمن الغذائي، والصحة العامة. وفي هذا السياق، ثمة حاجة ماسّة إلى إعادة النظر في طريقة تصميم البيئات الحضرية وإنشائها والحفاظ عليها. ويجب أن يكون بناء المجتمعات المستدامة أساس جهودنا، بهدف تحقيق أهداف الحياد المناخي وضمان مستقبل مشرق للجميع.
ويمكن للمجتمعات المستدامة حلّ العديد من التحديات الصعبة التي تواجه المدن اليوم. فمن خلال الاستفادة من الطاقة المتجددة، والبنية التحتية الموفرة للموارد، ومبادئ الاقتصاد الدائري، يمكن لهذه المجتمعات تحقيق تحسن كبير من حيث تأثيرها البيئي وجودة حياة السكان. وتتمتع المجتمعات المعنية بالمرونة والقدرة على التأقلم والشمولية، حيث تشكل نموذج تنمية حضرية يتماشى مع الأهداف الوطنية في الاستدامة.
وانسجاماً مع هذه المهمة، شهدت دولة الإمارات تطوير العديد من المجتمعات المستدامة، من بينها مدينة الشارقة المستدامة، التي تُعد أول مجتمع سكني مستدام في إمارة الشارقة تم تطويره بالتعاون بين هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير (شروق) وشركة «دايموند ديفلوبرز». ويحتضن المشروع أكثر من 600 أسرة من دول مختلفة، ويهدف إلى تلبية أعلى معايير الاستدامة الاجتماعية والبيئية والاقتصادية.
وصُممت مختلف جوانب مدينة الشارقة المستدامة لتقليل بصمتها البيئية، وتحفيز إحساس بالمسؤولية البيئية والهدف المشترك بين سكانها، بدءاً من الوحدات السكنية الموفرة للطاقة والبنية التحتية المزودة بالطاقة الشمسية، ووصولاً إلى الأنظمة المتقدمة لإعادة تدوير النفايات وحلول التنقل الأخضر.
ويشكل بناء المجتمعات المستدامة خطوة حاسمة في مواجهة التغير المناخي، فضلاً عن دورها في تعزيز الصحة العامة والأمن الغذائي والمرونة والتنمية الاقتصادية. ومن خلال التركيز على الاستدامة في منازلنا وأعمالنا ومجتمعاتنا، يمكن لعب دور مهم في تحقيق مستقبل أكثر استدامة ومرونة للجميع.
إلا أن تكرار هذا النموذج يتطلب خطوات عملية من الحكومات والأعمال والمجتمع المدني لوضع السياسات والاستثمار في جهود الابتكار والتفاعل مع المجتمعات في رحلة الانتقال إلى نمط الحياة المستدام. ويركز مؤتمر كوب 16 الرياض (الذي تُعقد فعالياته من 2 إلى 13 ديسمبر 2024) على تعزيز الشراكات مع المجتمع المدني والمؤسسات المحلية، بهدف تطبيق حلول مستدامة على أرض الواقع.
وتكتسب الشراكات بين القطاعَين العام والخاص أهمية خاصة في هذا السياق، حيث يمكن تسريع عملية تطوير مجتمعات مستدامة وضمان توفير ميزاتها وفوائدها للجميع، من خلال دمج موارد وخبرة القطاع الخاص من جهة مع الدعم التنظيمي ورؤية الحكومات من جهة أخرى. وتشكل المنصات العالمية، مثل مؤتمر كوب 29 الذي اختُتمت أعماله مؤخراً، فرصة مثالية لصنّاع القرار لتحويل الالتزامات إلى أفعال ملموسة، والتركيز على الاستثمار في التنمية المستدامة وتعزيز تبادل المعرفة بين المدن.
ولتحقيق الحياد المناخي، يجب على المدن دمج الاستدامة في مختلف الجوانب والمستويات، بدءاً من التخطيط وتصميم البنية التحتية، وصولاً إلى التفاعل المجتمعي والتعليم. وباتت الرسالة واضحة، فاليوم لم يعد بناء مجتمعات مستدامة خطوة اختيارية، بل جانب مهم وضروري في ظل التغير المناخي التي يعصف بالعالم. ومن خلال الالتزام بهذا المسار، يمكننا الحفاظ على مدننا بصفتها مراكز للفرص وبيئات قادرة على التكيف.
* الرئيس التنفيذي لمدينة الشارقة المستدامة
0 تعليق