الخط الكوفي.. دلالات بصرية متجدّدة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الشارقة: جاكاتي الشيخ

من أروع ما يميّز الخط العربي قابليتُه للتجدّد والتطوُّر، فمن بين المشتغلين في هذا الفن العديد من الخطاطين الذين لم يكتفوا بتقليد أنواع الخطوط المعروفة، بالطرق الموروثة بها، بل حاولوا أن يقدّموا فيها ما يختلف عمّا كان معهوداً لها، دون أن يخرجوا على قواعدها الأساسية، مبرزين بذلك الغنى الجمالي لهذا الخط، ومن أولئك الخطاط السعودي جمال بن عيسى الكباسي.
يُعدّ جمال الكباسي واحداً من المجددين في الخط العربي، وخاصة الكوفي، وأحدث فيه تطويراً معتبراً، حيث ينسج فيه أعمالاً حديثة بدلالات بصرية عميقة تتجلّى في جمالياتها وخصوصية تكويناتها، فهو يوافق بين الحروف وبين الكلمات في تأليف مُتقن، ليضفي على تراكيبه مظهراً رصيناً، يُظهر قدراً كبيراً من التمكن الناتج عن طول الخبرة في إنشاء اللوحات المتكاملة، والتي تتواءم فيها مختلف الأبعاد والأحجام والكتل الخطية، فيما يعمل على تزيين الأحرف والكلمات ببعض العلامات الزخرفية التي تشكل ميسماً جمالياً خاصاً لأعماله، مثل ما نراه في اللوحة المعروضة بين أيدينا.
استجلاء
كتب الكباسي في لوحته نص الآية 46 من سورة الرحمن، والتي يقول فيها جلّ من قائل: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾، وهي آية يَعِدُ فيها الله من يخاف مقامَه من عباده بأن يجازيه بجنتين من جنانه، فالخوف من مقام الله هو تقواه، بطاعته وترك ما نهى عنه واتباع رسله وأنبيائه، فهذه التقوى اعتراف بالعبودية لله، وإيمان بربوبيته، وهي دليل على قوة ذلك الإيمان وصدقه، فلو لم يكن كذلك لما خاف هؤلاء العباد ربّهم في الدنيا خوف خشية ورجاء، ولذلك أراد الله أن يكافئهم على ذلك بالأجر الوفير والنعيم المقيم، ومن أجلّ آيات الله ما يستعشره المؤمنون الذين يدركون أن كلَّ خَوف يُورث صاحبَه الاضطرابَ والقلق والنفور، إلا الخوف من الله فإنه يُؤدي إلى الطّمأنينة والرِّضا والسعادة، وهو الشعور الذي لا يعادله إلا الشعور بدخول جنان الخلد، وهي الدلالات التي أراد خطاطنا استجلاءها في لوحته هذه.
اختار أن يخطّ العمل بالكوفي المضفور وهو من أجمل الخطوط الكوفية، ويتميز بكونه واحداً من أساليب الزخارف الكتابية البديعة، رغم تعقيده أحياناً، وتبرز أهم خصائصه من خلال ضفائره المرسومة على شكل أفرع متداخلة ومضافة بالارتكاز على حروفه العمودية والقائمة، وفقاً لما يراه الخطاط لشكل تصميمه، كما يتميز بعدة خصائص أخرى مثل ترابط أجزائه ومتانة تكوينه الخطي، وحرية تشبيك حروفه لرسم الزخارف الفنية المرجوة، فقد يُضفر الحرف منفرداً، وقد يضفر أكثر من حرف في كلمة واحدة، وقد تضفر عدة حروف في عدة كلمات، ما يطبع لوحاته بملامح جمالية تنفذ إلى قلوب مشاهديه، خاصة إذا نجح الخطاط من خلالها في عكس مضامين نصوصه المكتوبة.
ألق بصري
صمّم الكباسي تكوينه بشكل متناظر، على هيئة جنّتين متجاورتين، بأشجارهما وثمارهما، وقد ساعده أسلوب التناظر في تنفيذ فكرته بتناسق تام، فكانت صورة النص المكتوب في الجانب الأيمن معكوسة في الجانب الأيسر بدقّة، حيث بدأ من الأسفل إلى الأعلى فكتب «ولمن» في الجانب الأيمن من التكوين الخطي، كقاعدة للنص، لأن من تتوجه إليه هذه الآية هو من سينال هاتين الجنتين، وقابل مع «ولمن» صورتَها المعكوسة في الجانب الأيسر منه، ثم كتب فوقها «خاف» التي ضفر ألفها مع لام «لمن»، ليشير إلى شرط جزاء المَعنيِّ بالجنتين (الخوف من الله)، وقابل «خاف» بصورتها أيضاً، ثم كتب «مقام» مركّبة على «خاف» للاستمرار في كشف المعنى السالف، وقابل معها صورتها، وكتب «رَبَّه» ضافراً صورتي جزء «به» في قلب النص، ليكمل المعنى السالف، لأن المراد أن يخاف العبد مقامه هو ربُّه (الله)، ثم كتب «جنتان»، جاعلاً حرف النون في وسط الشكل العام للتكوين دون تناظر، وقد توسطتها نقطتها الحمراء لتمنح الشكل الزخرفي المتناظر ألقاً بصرياً مشرقاً.
وكأنه بهذا التناظر يريد أن يشير إلى أن جزاء تقوى الله في الدنيا تقابله الجنتان المتجاورتان، اللتان تشكّل ضفائرُ الحروف أشجارهما، والنقاطُ ثمارهما.
إضاءة
ولد جمال بن عيسى الكباسي سنة 1950م بالسعودية، واهتم مبكراً بالخط العربي، فتتلمذ على يدي هاشم محمد البغدادي، وصادق الدوري، حاصل على دبلوم الفنون الجميلة في الفن التشكيلي، وحصد طوال مسيرته عدة جوائز وشهادات محلية ودولية، من بينها: مكافأة الخط الكوفي في الدورة الثالثة من مسابقة أرسيكا الدولية للخط العربي، كما حصل على عدد من الجوائز التقديرية من بينها تلك التي حصل عليها في الشارقة سنة 2008، والجزائر سنة 2009، إضافة إلى تكريمه لكونه رائدا في الخط العربي في السعودية، وشارك في العديد من المعارض، وهو عضو عدة لجان تحكيمية في مسابقات الخط، وعضو عدد من الجهات العلمية الخاصة بفن الخط داخل السعودية وخارجها، ومثل بلاده في معارض ومهرجانات ولجان التحكيم خليجية وعربية وعالمية.

أخبار ذات صلة

0 تعليق