«لا تبك أيها الطفل»... ملحمة سردية في غيمة من الذكريات - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الشارقة: علاء الدين محمود

الناشر: دار روايات
في تاريخ الشعوب تبرز حكايات وقصص لا تنمحي من الذاكرة، ولا تغادر الوجدان، لأنها تروي سيرة الأمجاد والبطولات والتضحيات التي قدمتها أجيال في سبيل البشر والأوطان، وهي عامرة بالقيم ونبيل الأخلاق، لذلك تظل راسخة تلهم الناس جيلاً تلو جيل، وفي إفريقيا جنوب الصحراء برزت العديد من الأعمال السردية المعطرة بأريج الحكاية الشعبية وما تحمل من تصورات وأساطير وطقوس، فكان أن أضافت أبعاداً غاية في الجمال للسرد.
رواية «لا تبك أيها الطفل»، للكاتب الكيني نغوغي وا ثيونغو، التي صدرت في نسختها العربية عن دار روايات في طبعتها الأولى عام 2021، بترجمة: أمينة الحسن، تعد من الأيقونات السردية الخالدة، حملت رونق الحكاية الإفريقية وصنعت أجنحة حلقت بها خارج حدود القارة لتعانق القراء في كل مكان حول العالم إذ صنعت الدهشة، وتجلت فيها قدرة وبراعة وا ثيونغو أحد أبرز كتاب الرواية في العالم، فالعمل يتجول في فترة عصيبة في تاريخ بلاده كينيا، درة الشرق الإفريقي، فحياة ما قبل الاستعمار ليست كما بعده، لذلك فإن روعة الرواية أنها تذهب نحو الماضي لتنظر بعين التحليل لأحداث الحاضر وكيف هو المستقبل، فالعمل متعدد العوالم، قصته الرئيسية هي حكاية النضال ضد الاستعمار والاضطهاد والتوق نحو الانعتاق والحرية.

*تلك الأيام
الرواية تسافر نحو كينيا خلال واحدة من أهم محطاتها النضالية التاريخية في زمن الاستعمار، هو زمن ثورة الماوماو، ما بين 1952 و1962، حيث ينسج الكاتب من تلك الوقائع والمعطيات قماشة السرد الزاهية بألوان عديدة، وبمواقف مختلفة، وبطولات باقية جملت تلك الأيام رغم أنها سنوات حرب وقتل ومأساة، لكن القنابل التي كانت تتفجر حينها، كانت تفجر معها عشرات القصص والحكايات محتشدة بالأساطير، ومحملة بالقيم، وفي ذات الوقت، الكثير من الأسئلة حول أحداث جرت، ومواقف تغيرت، ورجال تحولوا من ثوار إلى محافظين، وحكايات حب وعشق حكم عليها بالموت قبل أن تداعبها نسمات الحياة.
*الصبي نجوروغي
وتقول مقدمة دار النشر عن أجواء الرواية: «(لا تبك أيها الطفل)، رواية عن صبي اسمه نجوروغي نشأ في زمن تمرد الماو ماو الذي اجتاح كينيا في الخمسينيات وأوائل الستينيات كحركة سرية لمقاومة الاضطهاد الاستعماري، وعن سعي نجوروغي للتعلم وحب مويهاكي ابنة معذّب عائلته. إن قضية الماو ماو انتهت وأصبحت من الماضي، لكن الرواية تابعَتها بغض النظر عن سياقها التاريخي، ثم حصلت كينيا على استقلالها وتناوب على حكمها العديد من القادة الأفارقة، ولكن شيئاً لا يزال خالداً: قصة حياة نجوروغي. تتغير الكتب عبر الزمن بطريقة رائعة إذا ما كتبت بحبر الفن، إنها دلالة على مدى إنجاز نغوغي ككاتب بإعادة تكوين فكر وأجواء وتوترات وحالة عصر الماو ماو. كما أنها كتبت في وقتها الخاص، حاملة القوة التي تجعلنا نشعر بالوقائع الثابتة: آمال الشباب، واستحالة العالم، والطريقة التي تؤثر فيها السياسة في حياتنا الحميمية، وضرورة المقاومة وقيمة العائلة، ولو لم يكتب نغوغي عملاً أدبياً سوى لا تبك أيها الطفل لتبوّأ مكانة متميزة في الأدب الإفريقي».
*أدوات
وعلى الرغم من أن الرواية هي الأولى للكاتب، فإنها عكست تلك الإمكانيات الكبيرة التي يمتلكها، وكيف تجمعت تلك الذكريات المشتتة كغيمات متفرقة في أفقه لتصنع تفاصيل السرد الذي جاء محملاً بالرؤى والأفكار الأيديولوجية التي تم توظيفها بمهارة بحيث تخدم جماليات الحكاية ولا تكون عبئاً عليها أو تخصم من رصيدها الإبداعي، والمبهر كذلك تلك اللغة البسيطة التي لا تخلو من الشاعرية وتوظيف الرمز والأسطورية بصورة منحت العمل الكثير من الأبعاد وجعلته يتميز بالثراء والشمول، وكذلك الوصف المبهر للأحداث والأماكن والوقائع بحيث يتسرب إلى القارئ الظن بأنه قد عاش تلك الأيام بالفعل، ذلك لمقدرة الكاتب على ربط الأمس واليوم، ورصد الأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها حتى الآن، والقضايا التي لا تزال معلقة في التاريخ الإفريقي، وتتواصل حكاية الإتقان الفني في هذه الرواية من خلال صناعة الشخوص، بحيث تعبر كل شخصية عن فكرة وقضية ومبدأ، إذ استطاع المؤلف في الرواية أن يصنع الكثير من المشهديات والصور من الواقع اليومي في تلك الحقبة، والغوص في أعماق البشر وكيف كانوا يفكرون، فالرواية ضاجة بالأسئلة ومحرضة على التفكير والتأمل في الأحداث والمصائر بل وفي مستقبل البشرية ككل، ففي تلك البلاد في القارة الإفريقية تجمع بشري من عرقيات وألوان مختلفة وأوروبيين مستعمرين، وأفارقة هم أصحاب الأرض، وهنود وآسيويين شكلوا طبقة التجار.
*مشعل متوهج
تبدأ الرواية بمقولة: «ينطلق نجوروغي في جوف الليل وحيداً مخاطراً بنفسه، تأتي والدته بحثاً عنه حاملة مشعلاً»، وتقول دار النشر في نهايتها: «هذا هو تأثير الفن، مشعل متوهج في أيامنا الظلماء، يضيء الطريق بحثاً عنا. إنها صورة تكشف الطبيعة المزدوجة للرواية، كيف يسكن بين عالمين؛ عالم الحقيقة وعالم العلن. حقائق كينيا كلها تجتمع في رواية لا تبك أيها الطفل: الانقسامات في المجتمع، الخيانة المتجذرة، إشكالية الأرض، الآثار اللامنتهية للاستعمار. تستمر الرواية كعمل فني في إمتاعنا وإثارة اهتمامنا من خلال جمالها، وقصتها المؤثرة، ونظرتها الشجاعة».
*أغانٍ روحية
ولعل اللافت في الرواية، تلك المقدمة بقلم الروائي والشاعر النيجيري الفذ بن أوكري، التي يغوص من خلالها عميقاً في عوالم العمل، تحليلاً وتفسيراً، متناولاً جوانب مهمة لهذه الدرة السردية الفريدة، ومقدماً إضاءة عن جوهر أدب إفريقيا جنوب الصحراء، ويقول بن أوكري في بعض من تلك المقدمة الطويلة: «كل من أغاني أزمان الردى والأغاني الروحية واضحة في (لا تبك أيها الطفل)، فهي من الروايات الرمزية التي تنبثق من فنان ينصت إلى ينبوع التقاليد، والأوضاع المضطربة في عصره المفارقة تكمن في بدايات نغوغي ككاتب. هناك تصور بأن الرواية الأولى للكاتب تمثل الشكل الأولي الذي يحتوي على الموضوعات التي تشغل فكر الكاتب والتي قد تستمر بقية حياته الكتابية. لكن في حالة نغوغي تمكنت الأحداث من صناعة أمر مختلف، لقد بدأ الكتابة على نحو غير متوقع وبطريقة سحرية أيضاً. الرواية تميل بيقينها وتوازنها وتبحر متمكنة من هدفها، بوتيرة ثابتة وهادئة، وغاية راسخة من النادر أن تنشر رواية أولى بهذه المثالية وكان نغوغي يبلغ الثمانية والعشرين من عمره أنداك».
*إضاءة
الرواية وجدت صدى كبيراً من قبل النقاد والأدباء حول العالم، ولا تزال تجد الإقبال من القراء، و مؤلفها نغوغي واثيونغو، هو أحد أكبر رموز الرواية الإفريقية والعالمية، وهو من مواليد كينيا عام 1938، حصل على العديد من الجوائز الرفيعة، وله الكثير من المجموعات القصصية والأعمال الروائية.
*اقتباسات
«رغم أنهم كانوا جميعاً من البيض فإنهم قتلوا بعضهم بالسم والنار».
«يبدو أن الزمن والظروف السيئة لا تنحاز إلى الجمال».
«كيف غادر الرجل الأبيض بلاده وجاء هنا؟، لابد أنه أحمق».
«هذه الحرب مر عليها زمن طويل، لن يتذكرها سوى كبار السن».
«الأطفال الذين ولدتهم أمهات سود أصبحوا رجالاً بيضاً».
«في الحرب، الناس يبكون ويموتون، ليتكم كنتم هناك».
«رعب الكارثة عاد إلى كينيا من جديد، وبكت كما لم تبك من قبل».
«ألحت عليه رغبة في فتح قطرات الندى ليعرف ما بداخلها».
«كيف يمكنك أن تستمر في العمل عند رجل أخذ أرضك».

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق