أحمد الماجد
بين أدب الأطفال والتراث علاقة قوية عند جميع الشعوب والأمم، ففي بداية تشكل الأدب في العصر الحديث، كان التراث هو المصدر الرئيسي في الكتابة للأطفال، فمنه استلهم الكتاب في أوروبا عشرات القصص، نذكر منهم تشارلز بيرو وفرانسيس أوزبورن وروبرت سامبر وجون نيو بري وهانز كريستيان أندرسون وغيرهم، ويعود هذا لعلاقة أدب الأطفال بالتراث، فالتراث تعبير عن طفولة البشرية وترجمة لتفكير المجتمعات الأولى، لهذا عُد التراث من أهم الينابيع التي رفدت الأدب بمادة ثرية غنية لا تنضب، فقد أتاح التراث للأدباء أن يقتبسوا منه ما يشاءون من الأشكال والموضوعات.
ويعرف التراث على أنه: ذلك المخزون الثقافي المتنوع والمتوارث من قبل الآباء والأجداد، والمشتمل على القيم الدينية والتاريخية والحضارية والشعبية، بما فيها من عادات وتقاليد، سواء كانت هذه القيم مدونة في كتب التراث، أو مبثوثة بين سطورها، أو متوارثة أو مكتسبة، ومن هنا نجد أن الكاتب المسرحي قد شعر بمدى ثراء التراث بما فيه من معطيات تمنح عمله الإبداعي طاقات ودلالات تعبيرية لا حصر لها، كون أن معطيات التراث لها الكثير من التقديس والتبجيل في نفوس الأمة.
* استلهام
ويقصد باستخدام التراث في مسرح الطفل أن يعود الكاتب المسرحي إلى التراث ليصوغ منه أو ليستمد نصوصاً للأطفال، أي أن يصبح التراث مصدراً لمسرح الطفل بأشكاله المتعددة كالديني والأدبي والشعبي والأسطوري والتاريخي وهذا هو الأهم من بين الأشكال السابقة بما يحتويه من أحداث وشخصيات تدل دلالات باقية على وجودها التاريخي وتكون قابلة للتأويل والتفسير مثل أبطال الدعوات النبيلة والشهداء وشخصيات الخلفاء والأمراء والحكام الذين يمثلون الوجه المضيء سواء بما حققوه من انتصارات وفتوحات أو بما أرسوه من دعائم العدل والديمقراطية وحضور بريقهم وجاذبيتهم من الماضي إلى المستقبل.
إن استلهام التراث هو الأبرز في مسرحيات الأطفال اليوم، والشواهد على ذلك كثيرة ومتنوعة، حينما نقرأ ما كتبه الفريد فرج، والسيد حافظ (مصر)، وعبد الرزاق الربيعي (سلطنة عمان)، وطلال حسن (العراق)، و(مرعي الحليان) الإمارات، وإبراهيم بحر (البحرين)، والمسكيني الصغير (المغرب)، وغيرهم الكثير، وغالباً ما توقف المسرحيون عند حدود إعادة أو إعداد الحكايات والأساطير والأخبار والسير الشعبية، وهذا واضح في المسرحيات المدرسية الكثيرة، ثم طور المسرحيون الإعداد إلى نوع من الاستعادة عالجوا فيها السرد التراثي بأشكال تطلعوا من خلالها إلى التعبير عن قيم جديدة.
* بحث
إن البحث في أشكال التراث يستدعي النظر في موضوع استخدامه من منطلقين: الأول منطلق القصد الفكري والتربوي، والثاني منطلق الطرائق والأساليب التي لجأ إليها الكاتب لتحقيق ذلك القصد، فثمة أسباب دعت هؤلاء الكتاب لاستخدام التراث مصدراً لأدبهم أهمها أسباب فكرية، إذ يوفر التراث أرضية جاهزة في المخاطبة بما فيها من مضامين فعالة في إيجابيتها وأهداف سلوكية بناءة في مواقفها وأسباب فنية، لأن التراث يحمل قابليات الاتصال بجماهيره بفعالية لا يوفرها الأدب المستند إلى قوة التخيل وسعة الكلمات والمعنى، وأسباب تربوية باعتبار أن التراث أقدر على المخاطبة من مصادر مبتدعة تحتاج إلى هامش مضاعف من التربية والتثقيف لكي يكون بمقدور المتلقي ولا سيما الطفل أن يتفاعل معها.
ومهما تعددت الأساليب المتبعة في استخدام التراث، علينا أن نعلم أن الأدب التراثي لا يقتصر على طبقة العوام من الشعب كما يظن البعض، بل هو تعبير عن الشعب بكل طبقاته وميوله الثقافية، ذلك التراث الذي يمثل روح الشعب وطرق تفكيره وتعبيره عن واقعه وهمومه، حيث قام كتاب المسرح بخلق هذا التراث في قوالب مسرحية كي يفسروه تفسيراً جديداً على ضوء وعيهم وفكرهم وقضايا عصرهم.
* مشتركات
ويستدعي تأثير الحكاية المستمدة من التراث على مسرح الطفل الوقوف على المشترك بينهما، حيث إن الحكايات رافقت الشعوب في نشأتها الأولى، ونجد أنّ مسرح الطفل يرافق الإنسان أيضاً في أولى مراحل نموه، كما أنّ طريقة تفكير الشعوب في بداياتها مماثلة لطريقة تفكير الإنسان في طفولته، هذه العلاقة الخفيّة والوثيقة بين مسرح الطفل والتراث قديمة العهد فمنذ أن بدأ الإنسان بإنتاج الحكايات كان الطفل من جمهور المتلقّين لها، وعلى مرّ العصور وُظِّفت الحكاية كأداة لتربية جميع أفراد المجتمع بالغين وأطفالاً، ويمكن أن تعتبر الحكايات المستمدة من التراث نصوصاً مزدوجة لأنها موجهة للصغار ويقرأها الكبار كذلك، فإذا كانت في الماضي تروى وتقصّ لجميع أفراد العائلة من شباب وأطفال، فعندما انتقلت من مرحلة الشفويّة إلى التدوين صارت أقرب إلى مسرح الأطفال منه إلى مسرح الكبار.
وهناك عوامل أخرى مشتركة بين الحكاية المستمدة من التراث ومسرح الطفل من أهمّها أنّ الحكاية تخاطب العقل الباطني لدى الإنسان، وهذا ما يسعى إليه مسرح الطفل إذ يحاول دائماً أن ينفذَ إلى عقل الطفل الباطني ويخلص الطفل ويحرره من ضغوطاته الداخليّة التي يصعب عليه التخلّص منها بسبب مرحلته العمرية، كما أن الخوارق التي تعتبر من مكوّنات الحكاية التراثية تجذب الأطفال لما يجدون فيها من تعبير عن طموحاتهم وأحلامهم، خاصّة أنّها تنفذ لأعماقهم وعقلهم الباطني وتلعب دوراً فعّالاً في إثارة ما يخزن في هذا العقل.
إضافة إلى المضامين فإن المبنى الفنيّ للحكاية التراثية قريب جداً إلى وجدان الطفل وعقله لما تعتمده البنية الحكائية من تكرار وسجع وأسلوب الحوار القصير والمشوّق، وتقطّب الشخصيات وحبكة بسيطة ونهاية سعيدة، كل هذه العوامل جعلت الحكاية من المصادر الأساسيّة لمسرح الطفل.
* نموذجان
لو تأملنا النتاج المسرحي المتعامل مع التراث العربي لمعظم كتاب مسرح الأطفال العرب، لرأيناه مستمداً ومستوحىً من كتابين لا ثالث لهما وهما: (كليلة ودمنة) و(ألف ليلة وليلة)، فالشخصيات الحيوانية في (كليلة ودمنة) مطواعة للمسرح والكرتون، فهي شكل مناسب للأطفال الصغار، أما الشخصيات المغامرة في (ألف ليلة وليلة) فهي مطواعة لمسرح الأطفال الكبار الحي باستثناء بعض النصوص المسرحية التي حاول كتابها الابتعاد عن هذين الكتابين من أجل ابتداع حكايات وأشكال وعناصر فنية عصرية تتناسب ومخيلة طفل العصر.
وختاماً.. يؤكد المسرحي العراقي قاسم محمد، دوماً على أن توظيف التراث في المسرح (على وجه العموم)، هو نوع من التناص يحدث بصورة مقصودة، وتستخدم فيه مواد التراث لنقل رؤى وأفكار معاصرة ولا يُعد ناضجاً ما لم تحمل الموضوعات التراثية أبعاداً معاصرة، ويقول: «الحداثة لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى المعاصرة أي مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي لذلك كانت الحداثة أولا وقبل كل شيء حداثة المضمون، وحداثة الرؤية والهدف، أي أن الحداثة هي ما تنزع عن التراث طابع النسبية والتاريخية».
0 تعليق