تحولات القطاع المصرفي العُماني: مفتاح الاستثمار وخلق الوظائف - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

د. يوسف بن حمد البلوشي

"من الخطأ الاعتقاد أنَّ الاستثمار في أي قطاع يُمكن أن يعمل بمعزلٍ عن التمويل، والذي يصل أحيانًا إلى 80% من تكلفة المشروع؛ إذ بدون تمويلٍ لن يتحقق الاستثمار، وبدون استثمار لن نُؤسِّس المشاريع، وبدون مشاريع لن نجد الوظائف."

يُواجِه الاقتصاد العُماني تحديات هيكلية عميقة تحد من قدرته على خلق فرص عمل مُجزية للأعداد المتزايدة من الشباب العُماني، التي لن تتأتى إلّا من خلال تنويع القاعدة الإنتاجية، وتوظيف الموارد الطبيعية والمكانية، وتفعيل دور القطاع الخاص، بحيث يكون قادرًا على الاستثمار، ومن ثم الإنتاج والتصنيع؛ بما يُنتج فرص عمل ويُوسِّع من القاعدة التصديرية لسلطنة عمان.

وثمّة ضرورة مُلحَّة لربط نمو القطاع الخاص بالنمو الكلي للاقتصاد العُماني، الذي تقوده أسعار النفط، التي ارتفعت فعليًا مقارنة بالتقديرات المُعتمَدة في الميزانية العامة للدولة، حيث تشير البيانات إلى ارتفاع سعر النفط من 45 دولارًا للبرميل (السعر التقديري المُعتمد)، إلى 61 دولارًا (السعر الفعلي المُتحقَّق) في عام 2021، ومن 50 دولارًا إلى 64 دولارًا في عام 2022، ومن 55 دولارًا إلى 82 دولارًا في عام 2023، ومن 60 دولارًا إلى 80 دولارًا في عام 2024.

والنمو الاقتصادي وما يواجهه من تحديات، يستلزم بالضرورة تعظيم إسهامات الجهاز المصرفي في معالجة تلك التحديات، وذلك من خلال أداء أدور مفصلية ترتكز على حشد المُدخَّرات وتوجيه الائتمان للقطاعات الإنتاجية، وتوفير مختلف الأدوات المالية الداعمة لتوسيع أنشطة القطاع الخاص، وتعزيز تنافسيته، من خلال توفير التمويل بالتكلفة والاشتراطات المناسبة.

ولقد أسهم القطاع المصرفي -بمكوناته المختلفة- بأدوار إيجابية خلال العقود الماضية، واستطاع أن يُحقِّق نجاحات لا تُخطئها عين، لا سيما فيما يتعلق بالمحافظة على الاستقرار النقدي، وتحقيق نسب تعمين عالية، والعمل وفق أفضل المُمارسات والمعايير النقدية العالمية، غير أنه في المقابل، ولضمان استدامة التنمية وتحقيق القفزات النوعية الضرورية، لا بُد من إحداث تحوُّلات جوهرية في الأداء الحالي للجهاز المصرفي، الأمر الذي يستوجب تنفيذ مُقاربات جديدة؛ نظرًا للاستحقاقات المُستحدَثة التي تفرضها مرحلة النمو الاقتصادي الراهن. وللاستدلال على خصائص القطاع المصرفي ومساهماته، فإن التقرير الأخير لممارسة الأعمال الصادر عن البنك الدولي يُشير إلى أن أكبر عوائق ممارسة الأعمال في سلطنة عُمان، يتمثل في الحصول على التمويل بتكلفة واشتراطات مناسبة، وهذه حقيقة يؤكدها أصحاب الشركات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، إضافة إلى الدراسة الحديثة لغرفة تجارة وصناعة عُمان حول تنافسية بيئة ممارسة الأعمال، كما نشير في هذا السياق إلى أن هناك هيمنة للبنوك بشكل رئيسي على القطاع المصرفي، بينما تتسم المؤسسات المالية غير المصرفية بمحدودية الأدوار، فضلًا عن محدودية الأدوات والأوعية التمويلية المُتاحة، وارتفاع تكلفة الحصول على تمويل، ونسبيًا لا يُمكن الحصول عليه إلّا برهونات كالرواتب أو العقارات، ويُهيمن مستثمرو التجزئة المحليون على أسواق الأسهم، وهؤلاء يميلون لأن يكونوا عُرضة لسلوك استثماري أقل تطورًا من المستثمرين المؤسسيين.

ويؤخذ على مؤسساتنا المالية أن انتشارها العالمي محدود، وكثيرًا ما تحتاج لمُعرِّف خارجي في التعاملات الدولية، وهناك عزوف من البنوك والمؤسسات المالية الدولية للعمل في السوق المحلي، بجانب البُطء في تنفيذ الحلول الرقمية بسبب اللوائح ونقص المعرفة والخبرة. والأهم من كل ذلك أن حجم الائتمان المُقدَّم للقطاع الخاص (القطاعات الإنتاجية) متواضع، والموجه للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة أكثر تواضعًا، بنسبة لا تزيد عن 3.5% من إجمالي حجم الائتمان. وينصب جُل اهتمام البنوك في التركيز على القروض الشخصية المضمونة بالراتب الشخصي، وتُفضِّل التعامل مع موظفي وشركات وأجهزة الحكومة.

والقطاع المصرفي يُعاني من إدارات غير مُستقرة في مكوِّناته من شركات تمويل ومصارف، كما أنَّ هناك ارتفاعًا كبيرًا في نسبة التركُّز، حيث تملك 3 بنوك نسبة عالية من إجمالي أصول القطاع المصرفي، ويستحوذ بنك محلي واحد على أكثر من 40% من المجموع. ورغم ذلك، لا تزال البنوك العُمانية الأصغر نسبيًا في المنطقة، وتعزف عن تمويل المشاريع في المراحل الأولية من التأسيس.

وفي السياق الكُلي، يعزو كثيرون تباطؤ نمو الاقتصاد العُماني إلى أسباب عديدة؛ منها ما يتعلق ببيروقراطية العمل الحكومي، وصغر حجم السوق، وتآكل الطبقة المتوسطة وانخفاض الدخول الفردية. لكننا نرى أيضًا أن على رأس تلك الأسباب ضعف الاستثمار بشقيْه المحلي والأجنبي، وهذا الضعف مُرتبط بمحدودية التمويل وارتفاع تكلفة الإقراض؛ بل والأهم صعوبة اشتراطاته. ومن الخطأ الاعتقاد أنَّ الاستثمار في أي قطاع يُمكن أن يعمل بمعزلٍ عن التمويل، والذي يصل أحيانًا إلى 80% من تكلفة المشروع؛ إذ بدون تمويلٍ لن يتحقق الاستثمار، وبدون استثمار لن نُؤسِّس المشاريع، وبدون مشاريع لن نجد الوظائف، وبدون الوظائف لن يحصل الفرد على الدخل الذي يحتاجه، وبدون هذا الدخل لن تتحقق الحياة الكريمة التي يحلم بها كل مواطن، وتسعى إليها الحكومة.

ولا يخفى أن سلطنة عُمان باتت تحتاج لنموٍ اقتصادي وفق هيكلة جديدة بعيدة عن النفط، هيكلةٌ تقوم على تنفيذ مشاريع إنتاجية وصناعية وخدمية، وعلى الرغم من إدراكنا بأن المؤسسات المالية ليست جمعيات خيرية وأن هناك مساهمين ينتظرون أرباحهم، وتكاليف تشغيلية كبيرة، إلّا أنَّنا نُراهن على الحس الوطني لقيادات ومُلاك ومُساهمي المؤسسات المالية واستيعابهم لاستحقاقات المرحلة، وأدوارهم في ترسيخ ثقافة الادخار والاستثمار، والوعي المالي لدى الأُسر والشركات العُمانية، وغرس فكر جديد لدى العاملين بالبنوك، مفاده أنهم صُنّاع الاقتصاد والتنمية والمستقبل، والتذكير بدورهم الاستراتيجي لمعالجة الفجوة الاستثمارية الكبيرة، وضخ المزيد من الاستثمارات، وإتاحة التمويل.

وفي الختام.. نؤكد أن بلوغ النتائج المختلفة يتطلب مُمارسات مُغايِرة، وأن قوة البنوك ومؤسسات التمويل من قوة عملائها في الشركات، ولا بديل عن تحقيق تحولات جوهرية في القطاع المصرفي، وضرورة تجديد أدوار كلٍ من البنك المركزي العُماني والبنوك وشركات التمويل وبورصة مسقط. وذلك يفرض على مكونات القطاع المصرفي أدوارًا اقتصاديةً وتنمويةً واستثماريةً واجتماعيةً لا غنى عنها من أجل تحقيق «رؤية عُمان 2040»، والتي تستهدف نموًا مبنيًا على منظومة تمويلية متطورة تدعم الاستثمار والإنتاج والتصنيع والتصدير، وتحد من الاستهلاك، وعندئذٍ يكون القطاع المصرفي قد بدأ المسار الصحيح نحو الاستحقاقات الجديدة التي تنتظره.

التحوُّلات والأدوار المُرتقبة من القطاع المصرفي :

* تطوير منظومة تمويلية مُبتكرة، قادرة على التعامل مع أهم عناصر الإنتاج، وما يُعانيه الاقتصاد الوطني من شُح التمويل وارتفاع تكاليفه وزيادة الاشتراطات والضمانات المطلوبة للحصول عليه.

* المؤسسات المالية مُطالبة بمُضاعفة رؤوس أموالها، والدخول في اندماجات؛ بهدف تكوين كيانات مالية قادرة على تقديم التمويل بأوعية وتكاليف مُناسبة.

* السعي الحثيث لاجتذاب بنوك وشركات تمويل واستثمار عالمية وفق منهجية علمية؛ لتوفير التمويل المطلوب بالتكلفة والشروط والأدوات المناسبة.

* إطلاق برنامج كفالة وضمان القروض، يتبناه البنك المركزي ووزارة المالية، بمُشاركة المؤسسات المالية؛ بما يسمح بتوزيع المخاطر بين الأطراف المختلفة ويُوَجَّه لتمويل القطاعات الإنتاجية والشركات.

* زيادة جديدة لرأس مال بنك التنمية، وإجراء تعديلات جوهرية في أسلوب إدارته واشتراطاته، وإنشاء بنك صناعي وصناديق مُسرِّعات الاستثمار.

* توسيع نطاق الشمول المالي، من خلال نشر الثقافة المالية لدى الأفراد والشركات، وتبني قيم الادخار والترشيد، لا سيما وأن السلطنة ما تزال تفتقر لمُمارسات وأدوات مبتكرة، مثل بنكٍ للقروض الصغيرة، وبرنامج لتحفيز ودعم الصادرات.

* يتوجب على أجهزة الحُكومة أن تكون أكثر ابتكارًا في ترتيب احتياجاتها من التمويل وعدم مُزاحمة الشركات، والحد من إصدارات السندات وأُذون الخزانة وسحب السيولة المحلية.

أخبار ذات صلة

0 تعليق