ظلال في الظهيرة - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 شهد القرن العشرون في جنوب آسيا تحولات كبرى تركت تأثيرها في ملامح المنطقة وشعوبها، من انتهاء الاستعمار وبروز دول مستقلة كالهند وباكستان وبنغلاديش إلى تحديات بناء الهوية الوطنية، ورغم التقسيمات السياسية، ظلت الروابط الاجتماعية والثقافية قائمة، لتعكس تاريخاً معقداً يجمع بين الصراع والتواصل، ويُفسر ملامح الواقع المعاصر للمنطقة.

يقدّم كتاب «ظلال في الظهيرة: القرن العشرون في جنوب آسيا» للمؤرخة جُويا تشاتيرجي سرداً جديداً يعيد صياغة الطريقة التي ننظر بها إلى تاريخ الهند وباكستان وبنغلاديش، ويطرح رؤية شاملة تربط بين الماضي والحاضر، وذلك من خلال تتبع أحداث القرن العشرين من منظور العلاقات المتشابكة بدلاً من التركيز فقط على الانقسامات.
يعيد هذا الكتاب النظر بشكل كامل في تاريخ جنوب آسيا، ويركز على الروابط الثقافية والاجتماعية بين الهند وباكستان بدلاً من الانقسامات الشهيرة التي غالباً ما تطغى على السرد التاريخي. فاز الكتاب بالعديد من الجوائز المرموقة، منها جائزة ولفسون للتاريخ لعام 2024، وجائزة «لوس أنجلوس تايمز» للتاريخ لعام 2023، كما تم ترشيحه لجوائز مرموقة أخرى مثل جائزة كنديل للتاريخ وجائزة النساء للأعمال غير الروائية.
تسلط جُويا تشاتيرجي الضوء على الأنماط المشتركة في بناء الدولة، والحياة الثقافية والاجتماعية، وحتى أشكال الترفيه والاستهلاك، وتختار التركيز على تقسيم الهند البريطانية عام 1947 كنقطة رئيسية في تاريخ المنطقة. تعيد صياغة هذا الحدث كمحور شكّل الهجرة الداخلية والخارجية، وصعود القومية، وابتكارات التكنولوجيا التي ساهمت في تغيير وجه جنوب آسيا.
تقول الكاتبة: «كانت الهند وباكستان مختلفتين عن الحكم البريطاني، وإن كانتا تتبعان نمطاً مشابهاً. ازدادت قوة الدولتين مع مرور الوقت، وتغلغلت بعمق في حياة الناس أكثر مما فعل الحكم البريطاني. استثمرت كل دولة قدراً كبيراً من طاقتها وسلطتها فيما يمكن وصفه ب«مشروع المواطنة». وهكذا، تم تلقين شعب الهند البريطانية، وإقناعهم تدريجياً، بأنهم أصبحوا مواطنين لدول الهند وباكستان وبنغلاديش. تم إقناعهم بأن مجموعات معينة، بناءً على ديانة معينة أو لغة محددة، هي«العدو في الداخل»، في حين تم تصنيف جيرانهم كأعداء خارجيين يشكلون تهديدات دائمة. ومع ذلك، لم تكن الدول الجديدة أعداءً لا يمكن التصالح معهم. لم يكن بإمكانها تحمل تكاليف ذلك، بل كان عليها أن تتعاون في آلاف القضايا الصغيرة واليومية».
إرث التفكيك والعلاقات المعقدة
يمتاز الكتاب بدمج عناصر من السيرة الذاتية لعائلة المؤلفة، وتقدم المؤلفة قصصاً عن الشخصيات البارزة مثل رابندرانات طاغور، محمد علي جناح، المهاتما غاندي، وجواهر لال نهرو، إلى جانب أصوات المنسيين والمهمشين الذين دفعوا ثمن مشاريع بناء الدولة المستمرة. تكشف تشاتيرجي عن الأنماط المتشابهة بين الهند وباكستان في بناء الدولتين، بما في ذلك الأنظمة السياسية والاقتصادية، وآليات القمع، وأنماط الاستهلاك، وتؤكد أن هذه التشابهات غالباً ما تطغى عليها الروايات التي تركز على الانقسامات.
تقول الكاتبة: «يركز هذا الكتاب على الناس، في كل هشاشتهم وعلاقاتهم المعقدة التي غالباً ما تكون مليئة بالتناقضات. نلتقي بهم في العديد من السياقات: يأكلون معاً، يعيشون في أسر كبيرة ومعقدة، يسافرون كمهاجرين للعمل أو للزواج، يتنافسون للحصول على مساحة في مدن متوسعة، ويستمتعون بتغير أشكال الترفيه. أتطرق إلى العوالم الحياتية اليومية، والممارسات المادية والثقافية، بالإضافة إلى البيئات المشتركة التي تجاوزت الحدود التي رسمها الحاكم البريطاني في عام 1947».
وتضيف أن هذا الكتاب ليس فقط عن التاريخ السياسي لجنوب آسيا، بل يعيد تفسير هذا التاريخ من منظور جريء وجديد: منظور مرونة الشعوب. يتناول الكتاب المظاهر المشتركة للبلدان المجاورة التي تتشابه بشكل غير متوقع في كل جانب تقريباً. هذه الروابط المشتركة هي عنصر رئيسي في العمل.
توضح الكاتبة أن تأسيس دول جديدة من أمة كانت ذات يوم موحدة بالسكان المتنوعين تميز بمحطتين رئيسيتين: عام 1947، عندما حدث تقسيم الهند البريطانية، وعام 1971، مع انفصال باكستان الشرقية لتصبح بنغلاديش. يشكل هذا التاريخ نقطة الانطلاق لفهم أعمق للعلاقات الإنسانية والتغيرات الاجتماعية التي شكلت جنوب آسيا كما نعرفها اليوم. عندما أدى الاستقلال إلى ظهور الدولتين المنفصلتين، كانت تلك لحظات فاصلة في التاريخ. كانت هذه الأحداث لحظات ل«الفصل»، حيث تم تصنيف بعض الناس، سواء بناءً على الدين أو اللغة، على أنهم «الأغلبية الوطنية»، بينما تحول البقية إلى «الأقليات الوطنية» التي لم تستطع إثبات ولائها للأمة الجديدة، أياً كانت هذه الأمة.
وتوضح أن تلك الأحداث كانت كارثية بحد ذاتها، لكنها أطلقت شرارة التحول الذي أدى إلى جمع الناس معاً في أمم تتشارك اللغات، معززة بشبكات كثيفة من الروابط الاجتماعية والاقتصادية، ومسارات الهجرة، والبيئات المشتركة، والمفاهيم الثقافية. ولكن بناء هذه الهويات الوطنية لم يكن مهمة يوم واحد، بل استغرق سنوات من الجهد، وهي عملية مستمرة لا تزال تثير الجدل في الدول الثلاث، حيث لا يوجد إجماع واضح حول ما يعنيه حقاً أن تكون مواطناً في هذه الدول.
نقاشات مستمرة عن الهوية الوطنية
يتناول الكتاب موضوعات متعددة تتراوح بين القومية، بناء الدول، الهجرة، والأبعاد الثقافية والاجتماعية التي أثرت في المنطقة. يبدأ الكتاب بفصل «عصر القوميات: رؤى متنافسة»، حيث تستعرض المؤلفة الصراعات والنقاشات حول الهوية الوطنية في جنوب آسيا. يتناول الفصل جذور الحركات القومية والرؤى المختلفة التي تنافست على تحديد هوية الدول الناشئة بعد الاستقلال. ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى موضوع «المواطنة وبناء الأمة بعد الاستقلال»، حيث تُبرز التجارب المتنوعة لشعوب جنوب آسيا في مواجهة تحديات بناء الدول الحديثة، مثل الهند وباكستان وبنغلاديش، ومحاولات تحقيق الوحدة الوطنية رغم التحديات العرقية والطائفية.
تركز تشاتيرجي في الفصول اللاحقة، مثل «الهجرة في الداخل والخارج: الشتات الجنوب آسيوي»، على قضية الهجرة، سواء الداخلية أو الدولية، وكيف أثرت في الاقتصاد والمجتمع والثقافة. كما يتناول الكتاب قضايا الحياة اليومية، مثل الزواج والأسرة، ويخصص فصلاً مميزاً عن «الصيام، الولائم، والجوع: الطعام والسياسة في جنوب آسيا»، حيث تشرح المؤلفة كيف تعكس عادات الطعام والهويات الغذائية ديناميكيات السياسة والطبقات الاجتماعية. وختاماً، يقدم الفصل الخاص ب «الترفيه في القرن العشرين» نظرة على أنماط الترفيه والثقافة الشعبية التي ساهمت في تشكيل الحياة اليومية لسكان المنطقة.
هذا الكتاب يقدم «تصحيحاً ضرورياً» لفهمنا لديناميكيات تاريخ جنوب آسيا، حيث يعيد صياغة أحداث القرن العشرين بطريقة تتماشى مع استمرارية تأثيرها في يومنا هذا. يرى الكتاب أنها ما زالت تلقي بظلالها على المشهد الحالي في جنوب آسيا، خاصة أن الهويات لا تزال متشابكة لشعوب جنوب آسيا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق