إعداد ـ محمد كمال
عكس ما اعتقده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقدرته على إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية في يوم واحد، بدا أن الأزمة المستمرة منذ سنوات أكثر تعقيداً، لكنها ربما ليست عصية على الحل، ما دفع المحللون لبلورة النقاط الأكثر صعوبة ومحاولة التوصل إلى حلول مقترحة بشأنها.
ويعد تحقيق التوازن بين سيادة أوكرانيا ومطالبة روسيا بتقديم «الضمانات الأمنية» الخاصة بها، من شأنه أن يشكل الجزء الأصعب في أي مفاوضات، وهو ما يعني أن الحل يكمن في التنازلات الصعبة.
وقال ترامب صراحة، إنه يريد «عقد صفقة لوقف هذه الحرب السخيفة»، ثم كسرت مكالمته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والاجتماع المتوقع حاجز الجمود ورفعت سقف التوقعات بأن المفاوضات يمكن أن تنهي ثلاث سنوات من القتال.
ـ من على الطاولة؟ ـ
وبعدما سعت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن إلى محاولة عزل روسيا دبلوماسياً، فقد خرج ترامب عن هذا النهج في 12 فبراير/ شباط، عندما ناقش الأزمة في مكالمة مطولة مع بوتين، ثم قال إنه «سيُبلغ» الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بالمحادثة.
وربما يتم استبعاد الدول الأوروبية أيضاً على الرغم من أن إجمالي المساعدات الأوروبية لأوكرانيا منذ بداية الحرب، والذي يبلغ نحو 140 مليار دولار، وهو أكبر مما قدمته الولايات المتحدة.
ـ الحل الوسط المحتمل ـ
وفي ظل تشديد أوكرانيا على أنها لن تعترف أبداً بأي تغيير في حدودها، فإن روسيا لا تطالب فقط بما يقرب من 20% من المناطق التي تسيطر عليها بالفعل، ولكن أيضاً على مساحة من الأراضي تحت سيطرة جزئية لكييف في أربع مناطق.
ويتمثل الحل الوسط، وفق ما يراه بعض المحللين، في احتفاظ روسيا بالسيطرة على الأراضي التي استولت عليها بالفعل، مع إنهاء العمليات القتالية، بينما لا تعترف أوكرانيا والغرب رسمياً بالسيطرة الروسية عليها. ثم من الممكن أن ينص الاتفاق على حل النزاعات سلمياً في مرحلة ما في المستقبل، ربما بعد 10 أو 15 عاماً، كما اقترح المفاوضون الأوكرانيون بشأن وضع شبه جزيرة القرم في محادثات السلام عام 2022، بحسب نيويورك تايمز.
ـ كورسك ـ
لا تزال أوكرانيا تسيطر على نحو 200 ميل مربع من الأراضي في منطقة كورسك الروسية. وقد رفضت موسكو فكرة أن كييف يمكن أن تستخدم تلك الأرض كورقة مساومة في أي محادثات مستقبلية. ولكن إذا بدأت المحادثات قبل أن تتمكن روسيا من طرد القوات الأوكرانية، فقد تظل أوكرانيا قادرة على إيجاد طريقة لمقايضة الانسحاب من كورسك مقابل تنازلات من روسيا.
ـ الناتو والاتحاد الأوروبي ـ
في حين تريد أوكرانيا استعادة الأراضي التي استولت عليها روسيا، فقد أوضحت أيضاً أن أمنها المستقبلي لا يقل أهمية عن ذلك، وهذا يعني الحماية من الهجمات الروسية مستقبلاً. وبينما ترسخ أوكرانيا لفكرة أن عضويتها بحلف حلف شمال الأطلسي (الناتو) المفتاح لهذه الحماية، ترى روسيا أن انضمام أوكرانيا للحلف بمنزلة تهديد وجودي لأمنها.
ويرجح بعض المحللين أن ترك الطريق مفتوحاً أمام أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وليس لحلف الناتو، يمكن أن يكون الحل الوسط. ويستدلون على ذلك بأنه قبل فشل محادثات السلام عام 2022، وافق المفاوضون الروس على صياغة في مسودة المعاهدة تقول: إن الاتفاق سيكون «متوافقاً مع عضوية أوكرانيا المحتملة في الاتحاد الأوروبي».
ـ الضمانات الأمنية أكثر النقاط تعقيداً ـ
في غياب عضوية الناتو، طرح زيلينسكي نشر 200 ألف جندي أجنبي في أوكرانيا لحماية أي وقف لإطلاق النار. ويقول المحللون: إن الغرب لا يستطيع إنتاج مثل هذه القوة الكبيرة. وقال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر: إن بلاده ستكون مستعدة للمشاركة بعدد غير محدد من قوات حفظ السلام، وكذلك فعل وزير الدفاع الألماني.
لكن روسيا تريد «ضماناتها الأمنية» الخاصة بها حتى لا يتسنى لأوكرانيا محاولة إعادة بناء قدرتها العسكرية واستعادة الأراضي التي تسيطر عليها روسيا، حيث تسعى موسكو لتحجيم قدرات الجيش الأوكراني ومنع القوات الأجنبية من دخول البلاد.
ويُنظر إلى هذه النقطة على نطاق واسع باعتبار أنها الأكثر صعوبة في أي مفاوضات، وقام فريق من الخبراء بقيادة مارك ويلر، أستاذ القانون الدولي في جامعة كامبريدج والمتخصص في مفاوضات السلام، بصياغة اتفاق محتمل يتصور حلاً وسطاً، عن طريق نشر قوة دولية صغيرة قوامها 7500 جندي تتألف من دول مقبولة لدى كل من روسيا وأوكرانيا للحفاظ على السلام على خط المواجهة.
وينص اقتراح ويلر على فرض عقوبات فورية على أي من الجانبين إذا استأنف الأعمال القتالية، وسيسمح لأوكرانيا بإجراء مناورات مشتركة محدودة مع دول أخرى والتعاون معها في إنتاج الأسلحة والتدريب العسكري. ولن يكون هناك انتشار دائم للقوات الأجنبية، ولكن كييف يمكن أن تستضيف عدداً صغيراً من الموظفين الفنيين. كما ستوافق على حظر الصواريخ التي يزيد مداها على 155 ميلاً.
ـ آليات وقف إطلاق النار ـ
تتمثل القاعدة الأساسية لأي تسوية، في متانة تفاصيل اتفاق وقف إطلاق النار، ويشير توماس غريمينغر، الدبلوماسي السويسري السابق الذي شارك في مراقبة وقف إطلاق النار في شرق أوكرانيا بعد عام 2015، إلى ثلاث قضايا رئيسية.
وتتمثل القضية الأولى في الاتفاق على «خط الاتصال» الذي يفصل بين الأراضي الروسية والمناطق الخاضعة للسيطرة الأوكرانية. أما الثانية فتتمثل في الحاجة إلى إنشاء «منطقة عازلة» لمنع إطلاق النار الطائش بين الجانبين. أما الثالثة فتخص الطريقة التي سيتم من خلالها محاسبة الجانبين على أي انتهاكات لوقف إطلاق النار.
وقال غريمينغر، الذي يشغل الآن منصب مدير مركز جنيف للأبحاث السياسية الأمنية: إن اللغة المستخدمة في الاتفاقيات يمكن أن تكون تقنية للغاية فيما يتعلق بقضايا مثل منطقة فض الاشتباك وتنفيذ وقف إطلاق النار، لكنه قال: إن هذه اللغة يمكن أن تكون حاسمة بشأن ما إذا كان وقف إطلاق النار سيصمد.
ـ ما بعد أوكرانيا ـ
ويرى الرئيس الروسي أن حربه لا تتعلق بأوكرانيا فحسب، بل بإجبار الغرب على قبول بنية أمنية جديدة في أوروبا، فقبل أسابيع من الحرب الراهنة، قدم إنذاراً نهائياً يطالب فيه حلف شمال الأطلسي بالتوقف عن التوسع شرقاً والانسحاب من معظم أنحاء أوروبا. وقال الكرملين: إن بوتين حذر في مكالمته الهاتفية مع ترامب في 12 فبراير/شباط من «الحاجة إلى القضاء على الأسباب الجذرية للصراع».
وهذا يعني أن روسيا من المرجح أن تتقدم بمطالب تتجاوز بكثير مصير أوكرانيا نفسها. لكن حلفاء أمريكا الأوروبيين قد يرون أن تراجع حضور الناتو في أوروبا من شأنه أن يزيد من الخطر الروسي على دول مثل بولندا ودول البلطيق، لكن يرى مراقبون أن ترامب قد يكون مستعداً لمثل هذه الصفقة، نظراً لأنه يعارض مزيداً من انتشار القوات الأمريكية خارج حدود بلاده.
ـ مسارات تفاوضية متعددة ـ
وأمام كل هذه التعقيدات، فإن غريمينغر، الذي كان يعمل مع خبراء لتحديد كيفية سير المحادثات، يرى ثلاثة مسارات تفاوضية على الأقل، وهي: الولايات المتحدة وروسيا، وروسيا وأوكرانيا، وروسيا وأوروبا. ويؤكد: «لديك على الأقل هذه المستويات الثلاثة.. ولا توجد طرق مختصرة».
ـ ترامب وبوتين ـ
وللرئيس الروسي بالفعل مطالب تتجاوز الأراضي والأمن، ففي محادثات السلام عام 2022، سعى المفاوضون الروس إلى جعل الروسية هي اللغة الرسمية لأوكرانيا، وحظر تسمية الأماكن بأسماء مقاتلي الاستقلال الأوكرانيين. ومن المرجح أن تظهر هذه القضايا مرة أخرى.
كما يمكن أن يسعى بوتين أيضاً لمحاولة الاستفادة من التسوية الأوكرانية للحصول على فوائد أخرى من ترامب، مثل تخفيف العقوبات، وتعد رغبته الواضحة في التوصل إلى صفقة كبرى مع الولايات المتحدة، كما يعتقد بعض المحللين، هي التي يمكن أن تمثل أكبر حافز له. وتقول روز جوتمولر، وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية السابقة الخبيرة في التفاوض مع الروس: «إن بوتين يرغب في إقامة علاقة مثمرة وطويلة الأمد مع إدارة ترامب.. ولذلك يجب أن يكون على استعداد لتقديم التنازلات».
ـ ترامب وزيلينسكي ـ
بالطبع لن يخرج ترامب من كل ذلك خالي الوفاض، حيث يطالب بحصة أكبر من الناتج المحلي الإجمالي الأوكراني، عن طريق استرداد مبلغ 500 مليار دولار، والأغرب أنها تتجاوز بكثير سيطرة الولايات المتحدة على المعادن الحيوية في أوكرانيا، وهو يغطي كل شيء من الموانئ والبنية التحتية إلى النفط والغاز، وقاعدة الموارد الأكبر للبلاد.
وتكشف صحيفة التليغراف أن شروط العقد الذي وصل إلى مكتب زيلينسكي تنطوي على عبء تعويضات لا يمكن تحقيقه. لكن زيلينسكي اقترح فكرة منح الولايات المتحدة حصة مباشرة في العناصر الأرضية النادرة والمعادن الحيوية.
وقدر أن ذلك سيؤدي إلى قيام الشركات الأمريكية ببدء عملياتها، مما يخلق حالة مختلفة على الأرض، عن طريق وجود أمريكيين بأوكرانيا، ومن ثم قد يفكر بوتين كثيراً في أي هجمات مستقبلية، خشية الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
وبالفعل تقع بعض الأحواض المعدنية بالقرب من خط المواجهة في شرق أوكرانيا، أو في المناطق التي تسيطر عليها روسيا حالياً.
وفي حين لا تستطيع أوكرانيا أن تلبي مطالب ترامب بقيمة 500 مليار دولار في أي إطار زمني، فإن بعض المحللين يرون أن ترامب لا يعني ذلك حرفياً، حيث يهمه في النهاية الخروج بمكاسب مرضية، وستكون الكرة في ملعب أوكرانيا لتحديد الطريق الأقل صعوبة.
ومع المكاسب العسكرية الروسية المتسارعة في ساحة المعركة، فمن الواضح أن أوكرانيا لا تملك سوى خيارات قليلة لعكسها، وهذا يعني أن أي اتفاق من المرجح أن يتضمن تنازلات مؤلمة من جانب كييف، كما يعني أيضاً أن روسيا قد تضغط لإتمام صفقة صعبة، مع الأخذ في الاعتبار معاناة الاقتصاد الروسي جراء التضخم الجامح وسط إنفاق هائل على الحرب، وتوالي الخسائر البشرية.
ولكن يرى بعض المراقبين شعاع أمل استناداً إلى التقدم الذي أحرزته روسيا وأوكرانيا بالتوصل إلى اتفاق عندما تفاوضتا بشكل مباشر آخر مرة، عام 2022. ولهذا يرى المراقبون أن من الممكن التوصل إلى اتفاق من شأنه أن يرضي روسيا مع الحفاظ على شكل من أشكال السيادة والأمن لأوكرانيا.
0 تعليق