عُمان.. مسار طويل من التاريخ إلى المستقبل - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

إذا كان يوم السبت 11 يناير الماضي يوما من أيام عُمان الخالدة، فإنه، أيضا، يوم من أيام جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، التي لا تنسى.. لقد تحققت الرؤى التي مرت أمامه قبل خمس سنوات وهو يقف بشموخ الجبال أمام مجلس عُمان يطاول جبال مسقط الشامخة بعد أن أدى اليمين سلطانا على عُمان بكل تاريخها وعظمتها ومكانتها.. كانت رؤاه لعُمان، التي يريد، تمر وكأنها الأحلام البعيدة؛ فطموحاته لوطنه لا حدود لها ولا سقف.. لكنها أصبحت اليوم حقائق يراها على أرض الواقع، وتشعر بها أمته العمانية وتعيشها رغم برهة الزمن القصيرة التي مرت، ورغم حملها الثقيل.

ما أصعب ما حمل خلال السنوات الخمس الماضية! وما أصعب الجهد الكبير الذي بذله من أجل أن تتجاوز عُمان كل التحديات التي واجهتها ومن أجل الأمانة التاريخية التي حملها على عاتقه.. ما أثقل أحلام القادة الكبار عندما تكون لأوطان عظيمة كعُمان! لقد قالها جلالته بشكل واضح يوم السبت" :لم تكن التحديات يوما عائقا في طريق أسلافنـا لتأسيس دولة شهد لها العالم بالسيادة والريادة، ولن تكون لنا إلا دافعا للبناء على ما أسّسوا سائرين على هدْي من ثوابتنا الحضارية الراسخة، نتقدم بثقة في سبيل الوصول بهذا البلد العظيم إلى مكانته الأسمى التي يستحق".

لم أكن وحدي أشعر بالسعادة وأنا أسمع خطاب جلالة السلطان المعظم، أو وأنا أراه وسط أبنائه في المهرجان الطلابي وهم يحتفون بالسنوات الخمس المتخمة بالإنجازات والإصلاحات والتغيرات العميقة في بنى الدولة لتحقيق النهضة المتجددة، بل كان العمانيون كلهم سعداء يشعرون بنشوة المجد عبر الحديث عن الأسلاف الذين بنوا أمجاد هذا الوطن العظيم، أو وهم يعيشون لحظة الحصاد أو وهم يرون أضواء المستقبل الذي تسير نحوه عُمان بكثير من الإطمئنان.. بكل كان الأشقاء العرب يشاركون عُمان فرحتها كما شاركتهم أفراحهم وأتراحهم في كل المناسبات عبر التاريخ.

لقد أعطت الأقدار جلالة السلطان المعظم على حجم أحلامه لأمته العمانية وعلى حجم إخلاصه لها وبأكثر مما أعطت لغيره؛ فرأى في الواقع ما كان يمر أمامه كالخيالات في العتبات الأولى لحكمه رغم التحديات الكبرى التي تنوء عنها الجبال.

وجاء خطاب جلالة السلطان المعظم، مواكبا للحظة التاريخية التي أنجزتها عُمان خلال السنوات الخمس الماضية ومحتفيا بمسيرة الأمة العمانية العظيمة وراسما خطوط مستقبلها المنظور. كان الخطاب مرآة تعكس عُمق الإدراك التاريخي والسياسي الذي تتميز به القيادة العُمانية، وأفق الرؤية المستقبلية التي تستند إلى إرث حضاري راسخ.

لا يمكن أن نقرأ الخطاب باعتباره نصا احتفائيا في مناسبة وطنية ولكنه وثيقة مهمة ومتعددة الأبعاد نجحت في المزج بين التاريخ والسياسة والاقتصاد والاجتماع في نسيج متماسك، يعيد تعريف مكانة عُمان في العالم، ويطرح نموذجا فريدا لمفهوم القيادة في لحظة يشهد فيها العالم أزمة قيادة فيما هو في أمس الحاجة لها ليستطيع التعامل مع التحولات الكبرى التي يعيشها العالم المضطرب.

أمة تتحدث لغة التاريخ

كان التاريخ حاضرا بشكل كبير في خطاب جلالة السلطان المعظم بنفس القدر الذي يحضره في وعي جلالته، أعزه الله، وفي تكوين شخصيته الفذة، فكان يستدعي تاريخ الأسلاف ومنجزهم الحضاري والدور الكبير الذي بذلوه من أجل أن تبقى عُمان كيانا حضاريا مستقلا عبر الزمن. ومن بين من استدعاهم في خطابه السيد أحمد بن سعيد البوسعيدي، مؤسس الدولة البوسعيدية. لم يكن الهدف من استدعاء هذه الشخصية الفذة التنويه بها أو التذكير بل كان استحضارا لنموذج القيادة العمانية التي تعرف جيدا أهمية السيادة والاستقلال في بناء الدول. وهذا الطرح لقي تأكيدا كبيرا في خطاب جلالته وتشديدا على أنه لا مساس لنسيج الأمة العمانية ومنجزاتها ومقدساتها وأن جلالته وكل الأمة العمانية ملتزمون بأمنتهم التاريخية تجاه وطنهم. وهذا الوعي السياسي بات راسخا في أذهان العمانيين ومتكرسا عبر التجارب التاريخية التي خاضتها الأمة العمانية عبر تاريخها الطويلة من النضال والتضحيات والالتزام بمبادئ العدل والاستقلال.

وكرم جلالة السلطان المعظم أسلافه من سلاطين عُمان العظام بأن أعلن يوم 20 من نوفمبر كل عام يوما وطنيا عمانيا يستذكر فيه العمانيون قصتهم الوطنية وسردية نضالهم عبر التاريخ من أجل بناء عُمان واستقلالها وتشكيل المبادئ والقيم التي تأطر مساراتها نحو المستقبل. ويؤكد جلالة السلطان المعظم في هذا الاختيار لليوم الوطني أن الماضي/ التاريخ لم يكن في يوم من الأيام مجرد صفحات تطوى أو تأثث بها المكتبات ولكنه أساس متين تبنى عليه استراتيجيات الحاضر وخطط المستقبل.. وعُمان قادرة على إعادة استلاهم تاريخها وشحن طاقاتها من جذورها التاريخية الراسخة.

الثوابت التي لا تُمس

كان واضحا في خطاب جلالته التركزي على موضوع الاستقرار والأمن والأمان وربطهما بكل ازدهار يمكن أن يتحقق في أي دولة من الدول، ولذلك كان يؤكد نجاح العمانيين عبر التاريخ فإن أن يكونوا "صفا واحدا كالبنيان المرصوص يسيرون على بصيرة مصدرها العقيدة السمحة، نابذين كلّ تعصب رافضين كل استقطاب يجزِّئ الأمة ويفت في عضدها متمسكين بكل ما يجمعهم على الحق مبادرين للخير وثـابـين لبناء وطنهم وأمتهم".

وهذا خير يحمد العمانيون ليه ربهم الذي جعلهم نموذج استثنائي لدولة استطاعت الحفاظ على استقلال قرارها السياسي.. وهذا الأمر مرده بعد توفيق الله سبحانه وتعالى إلى الوعي العميق الذي تشربه العمانيون عبر تجاربهم التاريخية وعبر المخاضات الكبيرة التي خاضوها خلال القرون الماضية ففهموا جميعا معنى الاستقرار وضرورته لبناء أي نهضة واستمرار أي كيان سياسي.. وأصبح هذا الوعي عبر الوقت فلسفة آمنت بها عُمان وبنت عليها توازناتها الداخلية والخارجية وشكلت ثنائياتها التي تقوم على فكرة المزج بين الحداثة والمعاصرة وبين الحفاظ على الهوية الوطنية وبين الانفتاح على العالم وتجاربه الأمر الذي أعطى عُمان القدرة على التفاعل مع الآخر دون أن تمس ثوابتها ودون أن تتماهى في العولمة رغم أن استفادت من معطيات العصر وثوراته التكنولوجية.

بناء الإنسان أولا

إذا كان استعادة الأسلاف هو استعادة للتاريخ فإن الحديث عن رؤية عمان 2040 هو حديث عن المستقبل؛ ولذلك ركز الخطاب كثيرا على الرؤية فكان أحد أهم محاورها.. لكنّ الخطاب أيضا لم يناقش الرؤية بوصفها خطة اقتصادية ولكنها مشروع حضاري هدفه بناء الإنسان والارتقاء به.. ولذلك جاء الحديث عن تحسين الخدمات وتعزيز الكفاءة عبر شراكة وثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.. ويتحول هنا المواطن إلى هدف وغاية من كل محاور الرؤية وتطبيقاتها التنفيذية.

وفي الحقيقة فإن رؤية عُمان في مجملها هي تلك الرؤى والأحلام التي كانت تدور في ذهن جلالة السلطان المعظم وهو يقول بعد أن سمع وسمعت عُمان كلها وصية السلطان الراحل قابوس بن سعيد، طيب الله ثراه: "الحمد لله على كل حال"، أو وهو يقف يطاول شموخ الجبال أمام مجلس عُمان. ويعرف أن مسار تنفيذها ليس بالأمر السهل في ظل التحديات التي تعصف بالعالم وما ظهر بعد ذلك من تحديات جسام ليس من السهل تجاوزها.

ونجحت الرؤية في سنواتها الأربع الأولى في إحداث تغيرات جذرية في المشهد العمانية ولكن حجم التغيرات ما زال في بدايته وإن كانت المرحلة التأسيسية توشك على الاكتمال والتي شهدت بناء منظومة من القوانين والتشريعات الجديدة التي تتواكب مع طموحات ومسارات الرؤية وخططها التنفيذية. وضعت الرؤية عُمان على خارطة التنويع الاقتصادي وعدم الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل خاصة بعد اليقين أنه لم يعد هو مسار المستقبل الأمثل. ولذلك كان حديث جلالة السلطان المعظم في خطابه عن تطوير الموانئ والمناطق الحرة والمناطق الصناعية المتكاملة يأتي في سياق الرؤية نفسها وفي سياق طموح جلالته أن يجعل عمان محورا أساسيا في الاقتصاد العالمي الجديد الذي يقوم على الطاقة الخضراء المتجددة في المقام الأول. لكن لا بد من الوقوف عند نقطة مهمة ركز عليها الخطاب تصريحا وتلميحا والتي تتمثل في أن التنوع الاقتصاد الذي تسعى له عمان لا يهدف فقط للوصول إلى التوازن المالي وإلى الاستدامة بل هو أداة لتعزيز السيادة؛ فالاعتماد على الذات الاقتصادية يحرر القرار السياسي من الضغوط الخارجية، ويمنح الدولة مرونة أكبر في مواجهة التحديات. وهذا الأمر جربته عُمان وخبرته خلال السنوات الخمس الماضية وفي عز الأزمة المالية التي كان يعاني منها العالم أجمع.

الشباب: الرهان الأكبر

ركز خطاب جلالة السلطان المعظم التاريخي على الشباب، أو يمكن القول أن الخطاب كان يخاطب أجيال الشباب، يخاطب فيه أجيالا ينتظر منها أن تحمل راية التغيير وراية إعلاء مكانة عمان بعد أن حدثهم عن صنيع أسلافهم وعظمتهم وتضحياتهم من أجل بقاء راية عُمان خفاقة في السماء. وشباب عُمان هم في عمق رؤية عمان 2040 ولذلك كان الحديث عن المؤاءمة بين التعليم وبين سوق العمل والحديث عن توفير فرص تدريبية وإطلاق مبادرات تدعم ريادة الأعمال.. وهذا الأمر في مجمله استثمار في الشباب وفي بناء وطنهم الأمر الذي يمكنهم من حمل راية عُمان عالية خفاقة. لكن كعادة جلالة السلطان المعظم عبر كل خطاباته وأحاديثه إلى المواطنين لم يقف، فقط، عند البناء التقني أو فرص التدريب وحدها ولكنه توقف مليئا عند البناء الأخلاقي والقيمي.. فالشباب في فلسفة جلالة السلطان وفكره ليسوا عمالا في آلة الاقتصاد المحلي أو العالمي ولكنهم مواطنون يحملون في طموحاتهم تطلعات أمة بأسرها. يقول جلالته في خطابه "نسعى دائما لتعزيز الجهود والبرامج الحكومية للحفاظ على إرثنا الأخلاقي والقيمي والسلوكي وعلى تبني مبادرات حكومية ومجتمعية واسعة تُمكن هذه الأجيال من استلهام موروثنا الوطني والتسلح بمبادئه الصافية والاحتكام لمنظومتنا الأخلاقية السامية".

وتعكس هذا الخطاب وما سبقه من خطابات لجلالة السلطان المعظم إرداكا بأن أي تقدم اقتصادي أو سياسي لن يكون مستداما دون هوية واضحة.. وهذه الهوية، تستمد قوتها من تاريخ عُمان وثقافتها، وهي قادرة على أن تجعل التنمية في عُمان تنمية شاملة، تتجاوز الماديات لتشمل الإنسان في كل جوانب حياته.

العدالة ركيزة للنهضة المستدامة

تحدث جلالة السلطان المعظم عن العادلة في مسارين في خطابه مسار داخل ومسار دولي يشمل العالم أجمع. في المسار الداخلي تحدث جلالته عن العدالة عبر تطبيق منظومة الحماية الاجتماعية التي تسعى لتحقيق عدالة اجتماعية بين الجميع.

ودعا جلالة السلطان المعظم عبر طرح تقدمي يتجاوز الفهم الضيق لهذا العالم الذي نعيش فيه دول العالم "للتضافر من أجل بناء عالم تسوده قيم الإنسانية والعدالة، تحترم فيه مقدسات كـل أمة وهويتها ودينها ومعتقداتها وأخلاقها، وكرامة الإنسان فيه مصانة وحقوقه مكفولة في عالم ينشأ شبابه في توازن وانسجام بين أساسه الروحي ومتطلباته المـادية". وهذا الطرح يتوافق مع السياسية التي تتبنها عُمان عبر العقود الماضية وهي التي أكسبت عمان مكانتها بين الأمم والشعوب. لكن هذه الدعوة تأتي عبر فهم عميق لتحولات العالم التي تعيد اليوم تشكيل الإقليم من حولنا والعالم أجمع وفق مبادئ العولمة وسيادة الأقوى: الأقوى عسكريا واقتصاديا.

**

في المجمل إن الخطاب التاريخي، بالنسبة لعُمان وتاريخها وبالنسبة لجلالة السلطان نفسه، استطاع أن يقفز فوق المناسبة ليكون خارطة طريق يكشف بشكل واضح جدا كيف يمكن لعُمان أن تستند إلى إرثها التاريخي وتصوغ مستقبل مشرقا يتماشى مع متغيرات العصر.. ما يجعل عُمان تتحول إلى أنموذج لدولة الحكمة والتوازن المستمد من تجاربها التاريخية الطويلة التي ستبقى تنير لها دروب المستقبل المشرق وتكون سندا لها في تجاوز التحديات والعواصف التي تهب على هذا الإقليم المضطرب بالضرورة.

وهذا السير العماني نحو المستقبل مربوط بجذورها بوعي تام بمسوؤليتها الحضارية والأخلاقية.

كان الخطاب إذا وثيقة مهمة تكشف رحلة الأمة العمانية التي عرفت بحق كيف تصنع تاريخها وكيف تستمر اليوم في كتابة فصول جديدة فيه بنفس الوهج ونفس الحماس والمسؤولية ونفس الطموح.

فتحية لأسلاف عُمان وما سطروه من أمجاد عظيمة وتحية لأجيال عُمان التي تصنع المستقبل.

وتحية لسلطان عُمان الذي يكرم التاريخ ويضيء المستقبل.

وتحية لتلك الهمة التي يحملها ولذلك العزم الذي يحيط به.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق