لماذا يدين المؤرخون الأمريكيون «إبادة إسرائيل للمدارس»؟ - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

ترجمة: أحمد شافعي -

ثمة أسئلة كثيرة للغاية ينبغي أن تعالجها مهنة التاريخ في الوقت الراهن. فبين أهل اليمين الراغبين في تأكيد تفرد أمريكا وعظمتها وأهل اليسار الراغبين في تأكيد إخفاقات أمريكا ونقاطها العمياء، كيف ينبغي أن يحكي المؤرخون قصة هذه الأمة؟ وما دور التاريخ في مجتمع يعاني نقصا خطيرا في سعة الانتباه؟ وما الذي يمكن أن يفعله هذا المجال -إن كان بوسعه أن يفعل أي شيء- لإيقاف تراجع عدد الطلبة الذين يتخصصون في دراسة التاريخ، والذين بلغت نسبتهم وفقا لآخر إحصاء نسبة شديدة التدني هي 1.2% من إجمالي الطلبة الجامعيين في أمريكا؟

غير أن السؤال الأكثر إلحاحا في المؤتمر السنوي للجمعية التاريخية الأمريكية الذي حضرته للتو في نيويورك لم يقترب من أي من هذه الأسئلة. بل إنه لم يتناول دراسة التاريخ أو ممارسته أصلا. وإنما تناول بدلا من ذلك ما أطلقَ عليه «إبادة إسرائيل للمدارس» -التي تم تعريفها بأنها التدمير العمدي للنظام التعليمي- في غزة، وكيف ينبغي أن يكون رد الفعل على ذلك من جانب الجمعية التاريخية الأمريكية التي تمثل المؤرخين في الأوساط الأكاديمية، والمدارس الابتدائية والثانوية، والمؤسسات العامة والمتاحف في الولايات المتحدة.

في مساء يوم الأحد، صوّت الأعضاء في لقائهم المهني السنوي على قرار تقدمت به جمعية (مؤرخون من أجل السلام والديمقراطية) وهي جمعية تابعة تأسست سنة 2003 لمعارضة الحرب في العراق. تضمن القرار ثلاثة إجراءات. أولا، إدانة العنف الإسرائيلي الذي تقول الجمعية إنه يقوض حق أهل غزة في التعليم. ثانيا، المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار. وأخيرا، وربما الأغرب من منظمة أكاديمية، التزام «بتشكيل لجنة للمساعدة في إعادة بناء البنية الأساسية التعليمية في غزة».

قال لي فان جوس، أستاذ التاريخ الفخري في كلية فرانكلين ومارشال والرئيس المشارك المؤسس لجمعية مؤرخين من أجل السلام والديمقراطية «إننا نعد هذا» أي الأفعال الإسرائيلية في غزة «انتهاكا متعدد الأوجه للحرية الأكاديمية». وأشار إلى أن الجمعية التاريخية الأمريكية قد اتخذت مواقف عامة من قبل، منها إدانة حرب العراق وحرب روسيا على أوكرانيا. «شعرنا أنه ليس لدينا خيار آخر، وأننا لو لم نخرج بهذا القرار، لكانت تلك رسالة مفادها أن المؤرخين لا يبالون فعليا بإبادة المدارس».

سيطر هذا الالتزام العاطفي على الاجتماع المهني الذي دأبه أن يكون فعالية هادئة تجتذب قرابة خمسين من الحضور، غير أنه في هذا العام، وبعد مسيرة في وقت أسبق، امتلأت جميع مقاعد القاعة. وبقيت برغم ذلك مجموعات من الأعضاء واقفة تصوت خارج قاعة ميركوري للرقص في فندق هيلتن نيويورك بوسط المدينة، دون حتى الاستماع إلى المتحدثين الخمسة المؤيدين والمتحدثين الخمسة المعارضين (ومن بينهم رئيس الجمعية القادم) وهم يعرضون وجهات نظرهم.

منع الإعلام من حضور اجتماع يوم الأحد ولكن الحاضرين وصفوا عبر صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي مناخا صاخبا غير معهود. وقد رأيت الكثير من الأعضاء يتجهون إلى الاجتماع مرتدين الكوفيات الفلسطينية ومعلقين ملصقات مكتوب عليها «قولوا لا لإبادة المدارس». وبينما تعرض معارضو القرار لصيحات الاستهجان والصفير، قوبل المؤيدون له بالتصفيق المدوي.

وقد لا يكون مدهشا إذن أن التصويت جاء بأغلبية ساحقة فالمؤيدون 428 والمعارضون 88، وتعالت هتافات «حرروا فلسطين» مع إعلان النتيجة.

كان الإجماع واضحا بين المؤرخين المحترفين، وهم جماعة شهدت الكثير من التنوع في السنوات الأخيرة، أو أنه كان واضحا في الأقل بين الأعضاء الذين حضروا. وقد يفسر المرء هذا باعتباره إشارة على دينامية المجال وعلى أن المؤرخين ناشطون في الاشتباك مع الشؤون العالمية بدلا من أن يشيبوا في صمت داخل الأراشيف المتربة، أو لعل هذا الإجماع -مثلما يشير المعارضون- نتيجة لحملة محكمة التنظيم.

ولكن بغض النظر عن أي شعور جيد يحدثه القرار في نفوس مؤيديه تجاه التزامهم الأخلاقي، فإن هذا التصويت له نتائج عكسية.

أولا، يعارض القرار التزام المؤرخ الأساسي بأن يقيم الحجج بناء على الأدلة. فهو يقول إن إسرائيل «دمرت فعليا النظام التعليمي في غزة»، دونما إشارة إلى أن حماس -التي لا ذكر لها في القرار- تؤوي مقاتليها في المدارس، بحسب رواية إسرائيل.

ثانيا، قد يشجع القرار منظمات أكاديمية أخرى على الانحياز في الصراع بين إسرائيل وغزة، وهو أمر أفضى إلى تمزيق أواصر الجامعات في العام الماضي، ولا تزال الجامعات تحاول أن تبرأ منه. ففي الاجتماع السنوي الذي يعقد في إجازة هذا الأسبوع للجمعية اللغوية الحديثة على سبيل المثال، من المتوقع أن يحتج الأعضاء على القرار الأخير الذي اتخذته منظمة العلوم الإنسانية برفض التصويت على الانضمام إلى مقاطعة إسرائيل.

وحتى من يوافقون على رسالة قرار الجمعية التاريخية الأمريكية قد يجدون سببا لعدم تأييد هذه الرسالة. فمن المؤكد أنها تصرف انتباه الجمعية عن تحديات تواجه مهمتها الأساسية وهي دعم الدور المهم للتفكير والبحث التاريخيين في الحياة العامة. فالالتحاق بصفوف التاريخ يتراجع والأقسام تتقلص، وسوق العمل في أدنى مستوياته للحاصلين على الدكتوراة في التاريخ.

وأخيرا، يؤكد هذا القرار ويعزز التصور بأن الوسط الأكاديمي بات مسيَّسًا للغاية وذلك في اللحظة التي تشهد تولي دونالد ترامب -المعادي للأكاديمية- السلطة مهددا باتخاذ إجراءات صارمة ضد النشاط السياسي اليساري في التعليم. فلماذا تأجيج هذه النيران؟

قال لي جيفري هيرف، أستاذ التاريخ الفخري في جامعة ميريلاند وواحد من المؤرخين الخمسة الذين تحدثوا ضد القرار يوم الأحد إنه «في حال نجاح هذا التصويت، فإنه سوف يدمر الجمعية التاريخية الأمريكية. فعند هذه النقطة، سيقول الرأي العام والجهات السياسية الفاعلة خارج الأكاديمية إن الجمعية التاريخية الأمريكية أصبحت منظمة سياسية وسوف يفقدون الثقة فينا تماما. فلماذا نصدق أي شيء يقولونه عن العبودية أو الصفقة الجديدة أو أي شيء آخر؟»

وليس القرار أمرا واقعا. فمجلس الجمعية التاريخية الأمريكية، وهو الهيئة الحاكمة للجمعية، لا بد أن يقبل أو يرفض إقرار التصويت أو ينقضه. ومن شأن الرفض أن يرسل القرار إلى أعضاء الجمعية البالغ عددهم أكثر من 10450 للتصويت الكامل. وقد أصدر المجلس في اجتماعه يوم الاثنين بيانا مقتضبا قال فيه إن قراره مرجأ إلى الاجتماع التالي، في موعد ما خلال الشهر الجاري. وحتى ذلك الحين، لن تتخذ الجمعية التاريخية الأمريكية موقفا رسميا.

وفي رسالة إلى أعضاء الجمعية قال جيم جروسمان، مدير الجمعية التنفيذي وأحد معارضي القرار إن «الجمعية لا تستطيع أن تتدخل، ولا تتدخل، ولا يجب أن تتدخل في أي مكان. فبوصفنا جمعية مشكلة من أعضاء، نظل على مسافة من القضايا الخلافية بين أعضائنا. كما أننا نضع في اعتبارنا أن فعاليتنا تقوم على شرعيتنا، وسمعتنا بوصفنا محايدين، وعلى نزاهتنا المهنية، وعلى الحدود اللائقة بنا».

ولعل ذلك الموقف قد تزحزح بالفعل. إذ أدان بيان الجمعية بشأن حرب العراق سنة 2007، على سبيل المثال، تورط أمريكا في العراق والرقابة المفروضة على السجل العلني لها وحث أيضا على إنهاء الحرب. وفي ما يتعلق بأوكرانيا، جاء البيان أكثر حذرا في عباراته، فرفض وصف فلاديمير بوتين لأوكرانيا بأنها جزء من روسيا واعتبر أنه مناف للتاريخ.

وقد يعتقد مؤيدو القرار الراهن أنهم يتحركون بوازع أخلاقي. ولكن المؤرخين يتعلمون أن يأخذوا النظرة بعيدة المدى بعين الاعتبار. وقد أذهب إلى أنه في حين يجب أن يكون المؤرخون أحرارا في المشاركة في القضايا العامة بمفردهم، فإنه خير للجمعية التاريخية الأمريكية بوصفها المؤسسي ألا تتدخل في صراعات سياسية. وقد يرى البعض في هذا خنوعا. أما أنا فأراه وقفا حكيما لموجة توسيع المهام ودعما من جانب العلماء للفكر المستقل.

باميلا باول من كتاب الرأي في نيويورك تايمز

خدمة نيويورك تايمز

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق