ما المسرحي فـي الرواية؟ هل هي القصة أو شكل التعبير؟ أو الشخصيات الفاعلة؟ أم فـي وجهة النظر إلى العالم الكلية؟ تُقرأ روايات كثيرة فـي لغتها الأم أو مترجمة، ثم نشاهدها مجسّدة فـي مستوى آخر على الخشبة فـي عرض مسرحي جاذب؟ ما الذي أضافه عنصر الإخراج إلى الرواية (نصا مقروءا) بعد أن فقدت خصائصها كافة، وصارت (نصا بصريا مسموعا اتصاليا)؟
يشير (معجم المصطلحات المسرحية) للدكتور أحمد بلخير الصادرة طبعته الثالثة المزيدة عن دار الأمان بالرباط، فـي توضيح الفرق بين المسرحة والتمسرح على النحو التالي: «إن مسرحة حدث أو نص هي تأديته رُكحيًا، وذلك باستعمال المَشاهد والممثلين بغية تشخيص وضعية، ويعد العنصر المرئي فـي المشهد والإخراج علامة التمسرح»، أما التمسرح فهو «ما يوجد داخل العرض، أو داخل النص الدرامي، ويكون بصفة خاصة مسرحيا».
وبهذا فإن نقل خطاب سردي إلى خطاب مسرحي، أو حدث ما فـي الحياة الاجتماعية يفتح أفق اشتغال المسَرَحة إلى مجال أكبر هو التمسرّح.
انطلاقا من هذا ظهرت عناوين دالة لتبيين هذا المجال من ذلك نقول على سبيل الشاهد: مسرحة الرواية أو القصيدة أو القصة القصيرة.
ويؤكد أحمد بلخير فـي معجمه على صعوبة التعبير عن التمسرح نقلا عن رولان بارت متسائلا: «ما التمسرح؟ إنه المسرح باستثناء النص، إنه كثافة من العلامات والإحساسات التي توجد فـي المسرحية، انطلاقا مما هو مكتوب».
يُلخص الكاتب (غسان أبو نجم) فـي دراسته المعنونة: (مسرحة الرواية وجدل الغايات: عائد إلى حيفا والمهطوان نموذجا) أن الأسباب التي تدفع مُعدي النصوص المسرحية إلى مسرحة الرواية هي أولًا: «مشكلة شح النصوص المسرحية وقلة عدد الكتّاب المختصين بالمسرح.
ثانيًا: ظهور مهرجانات المسرح التجريبي، وفتح آفاق التجريب.
ثالثًا: غايات ترتبط برؤية المخرج المسرح، وتؤكد دور الفن الجاد والملتزم فـي حماية القضايا الوطنية والإنسانية».
فـي هذا السياق، لجأ المؤلف والمخرج المسرحي العُماني محمد بن خلفان الهنائي إلى مغامرة جديدة تضاف إلى سجّله المسرحي، حيث مَسرحَ رواية (تغريبة القافر) للروائي العُماني زهران القاسمي، فما الذي وجده فـيها من عناصر درامية شدّته أكثر من تأليف نص درامي خالص، حينما أقدم على إعداد وإخراج الرواية الصادرة طبعتها الأولى عام 2022م، ونالت على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) فـي عام 2023م، وشاركت بها فرقة الدن للثقافة والفن فـي مهرجان المسرح العُماني الثامن الذي أقيم فـي العاصمة مسقط للفترة من 22 سبتمبر إلى1 أكتوبر 2024م.
هل كان يبحث فـي الرواية عن امتداد الجوهر المسرحي فـيها وماهيته؟ هل كان يسعى مثلًا إلى استلهام التراث والتاريخ العُماني بفولكلوره وأمثولاته وقصصه الممتدة على مساحة جغرافـية السلطنة من صلالة إلى مسندم بالوصول إلى مسرح عُماني متعدد اللهجات واضح الهوية والانتماء؟ هل كان يريد فـي تقديم عرضه باللهجات المحلية المتنوعة الضاربة فـي العتاقة إلى حد ما، أن يتأمل الجمهور العُماني حكايات يعرفها مسبقا، بينما يلتقط الجمهور العربي والخليجي اشتغالًا جمالي لأشكال الفرجة الفنية المتخيلة عبر أنساق العرض المسرحي المرتبطة مع (الممثل والفضاء والعلامات الكثيرة) المرئية والمسموعة، فـي ظل واقع محلي منفتح على العالم واسع القراءات والتأويلات؟ هل اعتقدَ أن قصص القافر (سالم بن عبدالله) ولد الغريقة ذات طبيعة مسرحية؟ ما الذي أضافه العنوان (القافر ولد الغريقة) من تأويلات بعيدة عن مضمون الرواية؟ ألا ينبئ العنوان عن موقف للمخرج وشخصيات العرض الدرامي بوجود حمولة تعددية ثقافـيّة أو أيديولوجية تعلن عن انفتاح للعرض على جدلية التغريب والوجود فـي العالم المحيط، حيث قُدم العرض المسرحي بتنويعات متباينة من اللهجات، فـي حين صدرت الرواية مطبوعة بلغة عربية استفاد مؤلفها القاسمي من توظيف اللهجة فـي بعض الكلمات حسب سياق السرد؟ أم أن ما حملته لهجات العرض أراد المخرج عن طريقه مناقشة جوهر التميّز فـي العالم لا الاختلاف؟ هل هناك مطابقة بين العملين؟
من ناحية أخرى، ألا تشير لفظة (تغريبة) فـي عنوان الرواية الفعلي وإهمال المخرج للفظة باستبعادها من العنوان الذي اختاره للعرض المسرحي إلى وجود أشكال خفـية من الصراع (صراع الطفل/ الفرد سالم بن عبدالله الملقب بالقافر تجاه مجموع أهل القرية جميعهم؟ وكذلك جوهر صراع الأفكار السياسية حول الماء كعنصر استقرار للناس وتكوين الحياة وبناء الآمال حيث شكلّت منظومة الأفلاج كنظام أساسي فـي القرى العُمانية التقليدية عنصرًا حيويًا لبنية الرواية بجعل القافر شخصية تمتلك موهبة فـي تتبع أثر الماء واقتفائه تحت باطن الأرض دون أطفال القرية.
ظاهريًا فـي ملحوظة سريعة لا يتمظهر وجود مطابقة بين عنوان العرض المسرحي مع عنوان الرواية وكذلك مع الكيفـية التي اقترح بها محمد خلفان بناء وتركيب الأحداث المسرحية (اللعب على أداء الممثل لأكثر من دور). أمّا ما فعله كدراماتورج، ظهر باجتهاده فـي نقل الرواية من جنسها الساكن الصامت فـي السرد، إلى جنس الفعل، ورد الفعل فـي المسرح، ومن خطاب الكاتب الحقيقي والسارد وخطابات الشخصيات المتخيلة فـي الرواية إلى خطاب الدراماتورج المخرج المُعّد فـي العرض المسرحي، ومن خطابات شخصيات المجتمع المحليّ داخل الرواية إلى خطابتها فـي العرض المسرحي أمام الجمهور، فصار أمامنا شخصيات جديدة تعرّفنا على أصواتها وقهقهتها ومرحها، وقفزها بحيوية وفق منظومة مغايرة السرد، وينبغي أن يأتي هذا جميعه لصالح العرض المسرحي لا الرواية، وكتوزيع الخشبة بمستويين ثابتين هما الداخل/ العميق، ومستوى الأمام فـي مقدمة المسرح. تمظهر تنفـيذهما من خلال الديكور الضخم الذي أثقل على العرض، وأحدث التنافر بين بعض العناصر.
فـي العرض المسرحي استطاع العمل أن يوجد تفاعل كبير للجمهور مع شخصياته: (مريم بنت حمد، وعبدالله بن جميل، والشيخ، وهلال ود محجان، وكاذية بنت غانم، والقافر وطويرش والشايب وظبية والطفلة وأهالي القرية) كما استطاعت هذه الشخصيات خلق انسجامها مع المجاميع الراقصة بأهازيجها المتنوعة، وإضفاء لمسة الضحك غير المُسرف على مشاهد العرض.
وضمن هذه الملحوظة استنتج أن أسلوب المطابقة كان موجودًا ضمنيًا فـي العرض، عبر تأكيد العرض على واقعية المَشاهد المسرحية للمجتمع المحلي، مما جعل محمد خلفان أكثر إخلاصًا للرواية؛ حيث نزع العرض إلى تثبيت مرجعية النص الروائي السردي، محافظًا المخرج غير متجاوز فـي حدود مساحة الفضاء وهندسة المكان وجغرافـيته سلطة السارد بحيث جعل الجمهور يعيش فـي أجواء محلية عمانية واقعية مجرّدة من التأثير المسرحي (حسب شعرية تودوروف وجيرار جينيت) خالية من الإيهام فـي مجرى الأحداث والوقائع فـي النص السردي.
0 تعليق