«شيء ما» عن حسن مدن - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

فاجأ الكاتب البحريني حسن مدن قراءه بإعلان التوقف عن كتابة عموده اليومي «شيء ما» في صحيفة «الخليج» الإماراتية بعد ما يقارب ثلاثين عامًا من الالتزام اليومي. قرار صادم لكثيرين يُذكُّر أن الاعتياد والألفة يحجبان في أحيان كثيرة أهمية الأشياء المهمّة، ذلك أننا لا نشعر بقيمة هذه الأشياء إلا حين نفقدها أو نكون على وشك فقدانها. كان حسن مدن رفيقًا يوميًّا للقراء، يشاركهم التأملات والقراءات والانطباعات عن الحياة والثقافة والأدب والسياسة والرياضة والفن، وكل ما تقع عليه عينُه اللاقطة، وقلمه السيّال، بأسلوب رشيق وعميق في الآن ذاته.

في مقاله الذي عنونه: «مقالي اليومي الأخير» أشار مدن إلى التقدم في العمر والتغيرات الصحية كسبب رئيس لهذا القرار الذي وصفه بأنه من أصعب القرارات، وهو ما أجده مقنعًا إلى حدّ كبير، ذلك أن التزام كاتب بكتابة يومية لفترة طويلة يشكل بلا شك عبئًا ذهنيًّا هائلًا، ومع التقدم في العمر يصبح من الصعب الحفاظ على النسق اليومي ذاته، وقد كتبتُ شخصيًّا ذات يوم أن الالتزام أمام القارئ بعمود أسبوعي أمرٌ متعب، أما الالتزام بعمود يومي فهو الانتحار الكتابي بعينه. لكنّ عليّ أن أعترف الآن أن لهذه القاعدة بعض الاستثناءات، وعلى رأسها حسن مدن. ومن هنا تأتي الحسرة على خسارة صوت يومي بارز، اعتدنا أن يكون قهوتنا أو شاينا الصباحي الفكري كل يوم.

لَطالما راودني سؤال: كيف استطاع حسن مدن الاحتفاظ بقارئه كل هذه السنين؟ ذلك القارئ الذي نعرف كم هو متطلِّب ومتقلِّب ومَلول ولا يرضيه العجب ولا الصيام في أي شهر من شهور السنة. طرحتُ عليه سؤالًا شبيهًا بهذا حين استضفتُه في البرنامج الإذاعي «نوافذ ثقافية» السنة الماضية فأجاب: « بالطبع لا تستطيع أن تكتب مقالًا مميزًا كل يوم، ولكن هناك حدّ أدنى ضروري يجب ألا تتراجع عنه للحفاظ على مصداقيتك أمام القارئ وأمام نفسك أيضا». وأظن أن هذا هو السرّ؛ احترام القارئ واحترام النفس. عدتُ أسأله: «كيف تختار مواضيع مقالاتك؟» فأجاب أن الأفكار يلتقطها من القراءة، ومن روافد أخرى: «أحيانًا يكفي خبر معين فيه دلالة، أو طرفة، أو معلومة تاريخية، والباقي عليك ككاتب. ولكن لا بد من فكرة تُشْعِل شرارة المقال. ألتقطها أحيانا من مشاهدة تقرير في التلفزيون، أو مشاهدة فيلم أو مقطع منه، والمطالعة الدائمة لكتب الأدب والفكر ملهمة بالأفكار. أحيانا تلتقط الفكرة من لسان أحدهم وأنت جالس مع مجموعة أصدقاء «..» ومن السفر الذي هو ملهِم للكتابة».

هذا التنوع في مصادر الإلهام هو الذي أتاح لحسن مدن بعد ذلك أن يجمع شتات كثير من هذه المقالات التي تتلاقى في موضوع واحد في كتب عديدة يخال المرء حين يقرأها أنها أُلِّفتْ ككتب، لا كمقالات، إذْ يُجري عليها الكثير من التحرير والحذف والإضافة لتبدو كذلك. وهكذا ظهرت للنور العديد من كتبه المميزة مثل «الكتابة بحبر أسود»، و«للأشياء أوانها» و«تنور الكتابة»، و«في مديح الأشياء وذمها»، وغيرها.

المبهج في قرار حسن مدن – إن كان فيه ما يُبهج – أنه لم يمر على قارئه الحقيقي مرور الكرام، بل كان مناسبة ليقف مدن بنفسه على أهمية مقاله الذي حجبه على مرور السنوات الاعتياد والألفة كما سبقتْ الإشارة. إذْ لم تنقطع خلال الأسبوع المنصرم المقالات المعلِّقة على قرار التوقف، والمبدية حزنها وحسرتها على هذا الأمر، خاصة من كُتّاب الأعمدة اليومية الذين يعرفون تمامًا حجم المشقة الذهنية والتحديات التي تواجه كاتب العمود الصحفي اليومي، وعلى رأسهم سمير عطا الله، الكاتب اللبناني المخضرم، صاحب العمود اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط»، الذي ذكّرنا أن حسن مدن ظّلَّ «يكتب يوميًّا، طوال ثلاثين عامًا من دون أن يستخدم كلمة جارحة واحدة». ولا شك أن هذا سببه خلق مدن الرفيع وتواضعه الجم الذي انعكس على قلمه، كما أكد على ذلك كل من كتبوا متحسرين على توقفه، ومنهم - إضافة إلى سمير عطا الله - الأديب الإماراتي إبراهيم الهاشمي، والكاتب البحريني محمد الصياد، والأديبة الأردنية أمل المشايخ، والكاتب الأردني يوسف أبو لوز، زميل مدن في الكتابة اليومية لصحيفة الخليج الذي أجرى إحصاءً تقريبيًّا لعدد مقالات «شيء ما» التي كتبها حسن مدن منذ عام 1996 حتى إعلان توقفه في 2025 فوجدها تناهز عشرة آلاف مقال، ما يجعلني أفكّر بصوتٍ عال: ماذا لو أن طالب دراسات عُليا عكف على دراسة هذه المقالات ومضامينها في رسالة ماجستير أو دكتوراه، بكل ما تحمله هذه المقالات من تنوع وثراء. ألن يخرج بدراسة رصينة عن حقبة مهمة في تاريخ الوطن العربي وسياساته وصحافته وإعلامه؟

لا شك أن هذا القرار – الذي لا نملك إلا احترامه - يمثل خسارة كبيرة لكل محبي القلم الرشيق لحسن مدن، لكنّ عزاءنا أنه ليس توقفا نهائيًّا، وأنه مازال لمحبي كتابة الأديب البحريني فرصة لقائه مرةً واحدة في الأسبوع بدلا من سبع، في الصحيفة نفسها وفي العمود نفسه. وبعض الخسارة أهون من بعض.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق