وقَعتُ قبل أيام قلائل على منشور قصير مرَّرَهُ أحد الأصدقاء بمجموعة « واتس أب» يدور حول رجل تقاعد
وقرر العودة من مسقط، حيث كان يعمل إلى ولايته «البلد»، نظرًا لانتفاء الأسباب التي دعته إلى استيطان العاصمة وما واجهته محاولاته للتعايش مع الوضع الجديد من ردّات فعل سلبية ومُستنكرة لم يفهمها أو يجد لها تفسيرًا أو مبرّرات منطقية.
لقِي المنشور تفاعلًا سريعًا وواسعًا وحظِي بتعليقات جاءت في مُجملها «ساخرة»، فقد صِيغ على صورة طُرفة هدفها الإضحاك، لكن مضمونه يمثل الواقع الذي يعيشه أغلب من أغلق ملف مرحلة العمل وقرر العودة إلى قريته لبدء حياة جديدة.
يقول الرجل بعامية دارجة لا تخلو من ضجر وسأم ودهشة:« سويت تجارة قالوا: ما شبعان من الدنيا، جلست في البيت قالوا: متقاعد عشان يرقد ويموت مكانه، اشتغلت في المزرعة قالوا: هالِك نفسه، زرت الناس وشاركتهم مناسباتهم قالوا: مِتفيق وما عنده شغل يدور من بيت لبيت، لزمت المسجد قالوا: مطوع الغفلة، ماشيت الشباب قالوا: مراهق على كبَر ما يستحي على نفسه».
وبقدر ما يبثُ المنشور نفسا من المرح والفُكاهة لكن جوهُ يبعث على الحزن والدهشة معًا، فهو يضع الشخص الذي تقاعد مُختارًا أو أُحيل إلى التقاعد مُجبرًا وقرر أن تستمر حياته بالصورة التي يحب ويطمح.. يضعه في زاوية ضيّقة غير مسموح له بالتحرك خارج مُحدِداتها، فهو مُتهم بجريمة محاولة صُنع حياة مُشرقة يتنفس فيها بحرية.. متهم باتخاذ قرار يضمن له الحرية وألا يتحكم مسؤول في وقته ولا يُصادر ذهابه وإيابه جهاز «بصمة» يعهد إليه مهمة رصد حركته وضبطها وتقنينها.
المدهش في الأمر، أن الجميع يُدركون تمام الإدراك ما يعنيه التقاعد وأنها مرحلة حتمية لا محالة آتية تمامًا كالموت الذي لا فرار منه ولا مهرب.. هم على يقين أن الفارس -أي فارس- مهما بلغ من الشجاعة والمهارة لا بد وأن يترجل يومًا ما عن حصانه.. الإنسان مهما تسنم من مناصب رفيعة سيترك كرسيه طائعًا مختارًا لآخر من باب أنها «لو دامت لغيرك ما وصلت إليك».
يبدو أن الأشخاص الذين نذروا أنفسهم بوعي أو بدون وعي للقيام بمهمة إيذاء الناس ونقد توجهاتهم ومصادرة حرية خياراتهم يجهلون أو يتجاهلون ما هي ضريبة العمل في وظيفة لها ما لها وعليها ما عليها لسنوات طِوال.. ما هو مردود ذلك على صحته البدنية والنفسية وعلى علاقاته البينية والاجتماعية؟
يقينًا أن هؤلاء لا يدركون فداحة الكدمات التي تُحدثها سنوات الوظيفة المُضنية في جدار نفسية الإنسان وحاجته الماسّة للخروج من عالم متوتر غالبًا ما يعُج بالمحكات والصراعات والحروب المكشوفة والخفية والنفاق.
النقطة الأخيرة..
يقول جان جاك روسو: «حرية الفرد لا تكمنُ في أنه يستطيع أن يفعل ما يريد، بل في أنه لا يجب عليه أن يفعل ما لا يريد».
عُمر العبري كاتب عُماني
0 تعليق