مرثية لمكتبة 234 - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

لا أستطيع تصور أن مسقط باتت دون أن تكون أبواب مكتبة 234 مشرعة. فمنذ افتتاحها لم تكن هذه المكتبة ملاذا للقراء فـي عُمان فحسب، عرفتُ أناسا عزموا على زيارة مسقط بسببها. آخرون تكبدوا تكاليف باهظة للغاية لشحن الكتب إلى مدنهم البعيدة.

لم تكن مكتبة زكي الحجري عادية بالنسبة لنا، فهي تمثل استثناء قل نظيره فـي عالم يعد وجود المكتبات فـيه شحيحا، فميزة المكتبات الجديدة أنها تعكس واقع سوق النشر، وهي بذلك فقيرة، هذه المكتبات ينبغي أن تعمل وفقا لديناميكية دورية تقضي تصريف الكتب بعد مدة على تزويد المكتبة بها، وذلك عبر إعادتها للناشر، قليلة هي تلك الكتب التي تبقى من أعوام سابقة، وبهذا فإن فرصة الحصول على الكتب النادرة أو تلك التي صدرت عن دور نشر مستقلة وصغيرة تتقلص بالنسبة للقراء.

أحدثَ الحجري منذ افتتاح مكتبته خرقا فـي هذه العملية، عندما قرر ألا يلتزم بقواعد هذا السوق. فعوضا عن عدم تصريف الكتب بهذه الطريقة، فقد اشترى الكتب النادرة دون التفكير فـي زبائنها المحتملين، من تلك الكتب كانت منشورات وزارة الثقافة السورية القديمة، وكان من الصعب بمكان أن نحصل عليها قبل أن يعتني الحجري بهذه المسألة. كان قد تواصل مع أصحاب متاجر كتب صغيرة فـي مدن بعيدة هو الآخر، وشحن لمسقط مئات الكتب التي لن يجد القارئ العربي منفذا للحصول عليها إلا معه.

أعرفُ كثيرا أنها حالة شائعة أن يصاب القراء بالحزن عندما تغلق مكتبة، أي مكتبة كانت، وقد كابدنا هذا الحزن عندما أعلنت مكتبة «لوتس» عن الإغلاق قبل مدة ليست بعيدة.

كتبت ليلي سانشيز مقالاُ دافئا فـي كثير من مقاطعه. عنونته بـ«كيف تغير المكتبات العالم» انطلقت فـيه من صياغة عالم الاجتماع راي اولدنبورغ سنة 1989 لمصطلح “third places,” وهي أماكن مثل المقاهي والمكتبات، المفهوم الذي استدرك المؤرخ ايفان فريس تكريسه فـي بحث نشر له العام الماضي عن تاريخ المكتبة الأمريكية، اعتبر فـيها هذه الأماكن مواقع حرجة للتبادل الفكري والاجتماعي والسياسي والثقافـي. تتحدث سانشيشز عن المكتبة كموقع للممارسة السياسية بشكل علني أحيانا وبشكل غير مباشر فـي أحيان أخرى. وتذكر أمثلة منها استهداف مكتب التحقيقات الفـيدرالي المكتبات المملوكة للسود كجزء من عملية كبرى شنها آنذاك لقمع القومية السوداء أواخر الستينيات.

ومن بين الأفكار المثيرة للاهتمام فـي كتابة سانشيز تلك التي تتعلق بالتفكير فـي معنى «التصفح» الذي تتيحه المكتبات، المستعملة منها خصوصا، إذ تراه يشبه الطهي أو المشي فـي نزهة على الأقدام دون أن تسمع شيئا عبر سماعة هاتفك، تباطؤ يضمن لك الاهتمام بالعالم من حولك. مع الطهي نحن نلاحظ تحولات الطعام عن طريق البصر والصوت والرائحة (الثوم يحترق فـي الزيت سريعا عليك أن تنتبه لذلك ولا تسمح باحتراقه) مثلا. وكذلك بالنسبة للمشي الذي يتطلب يقظة للطريق. إنها تعتمد على مقولة للشاعر الكندي جيسون غوريل الذي يعتبر أن فعل التصفح يمكن معايرته بوتيرة طبيعة جسم يتحرك عبر الفضاء.

تعتبر سانشيز أن تصفح الكتب فـي المكتبات يشبه حالة «الزن»، تشتهي القيام به بين الحين والآخر، ولا يتعلق ذلك برغبتها بالذهاب إلى مكان ما، كما هي حالة الإنسان الحديث الذي ما إن يكون فـي مكان ما حتى يتمنى لو كان موجودا فـي مكان آخر، أو دفعه بسبب من التململ لتغيير الأماكن والتجارب التي يعيشها خلال اليوم الواحد، دون أن يمسك بالتباطؤ كقيمة أساسية فـي يومه، تقول سانشيز إن رغبتها بالوجود فـي مكتبة ما لتتصفح الكتب وتختار منها هو شيء أصيل قادم من أعماقها، وتصف تلك اللحظات بحمام دافئ للدماغ.. وتشير إلى ما طرحه اليسون ديريش دين حول حاجتنا إلى مجتمعات صديقة للمشاة وأماكن للعبور التي نتقاطع فـيها مع الآخرين كما يحدث فـي المكتبة، أماكن تحتمل الصدف وأن نضيع فـيها لاكتشاف ما من شأنه أن يغير حياتنا للابد.

منحتني مكتبة ٢٣٤ كل هذا، أتذكر أنني فـي بدايات حضورها فـي مسقط لم يمر أسبوع واحد دون أن أقضي فـيها وقتا، وعلى الرغم من محدودية الساعات التي تفتح فـيها المكتبة، وإغلاقها فـي أيام الإجازات، إلا أن ذلك ضبطَ حركتنا كقراء على إيقاعها.

لقد كانت النفائس التي نحصل عليها من المكتبة أهم بكثير من التزامها بقواعد السوق حول ساعات العمل وما إلى ذلك. ولا يمكن أن أنسى أن الحجري تعامل معنا كأصدقاء لا كزبائن، أحيانا بطريقة كانت تقلقنا على مستقبل المكتبة، فكثيرة هي الخصومات التي أعطانا إياها، أو الكتب التي منحها لنا لأنه عرف بأننا وفقا لمشاريعنا التي نعمل عليها قد نكون مهتمين بقراءتها والاشتباك معها. أستطيع أن أقول إن هذه المكتبة التي زرتها عشرات المرات لم أعرفها تماما، وهذا هو مفهوم المكتبة كما أعرفه، لا يمكن أن تميز كتبها أو تعرف حدودها، لطالما تتلقاك باكتشافات لن تخطر على بالك. وكان الحجري مصرا على الحفاظ على مكانته داخل حي سكني صغير فـي العامرات رغم كل الملاحظات التي وجهها الناس حول ذلك. لقد أراد أن يكون جزءا من مناخ حي سكني، يتفاعل معه ويطبع وجود المكتبة فـيه.

يبدو الحجري كما لو أنه شخصية خرجت لنا من فـيلم؛ لفرط عدم واقعيتها سنحس بأنها غنائية ومبتذلة، فما الذي يعنيه أن يكون هنالك صاحب متجر كتب لا يفكر فـي متجره كمشروع اقتصادي بالدرجة الأولى، وأنه أراد من عوائد المكتبة أن تتمكن فقط من جعل هذه المكتبة قادرة على الاستمرار بنفسها دون الحاجة لأحد ولا له هو نفسه، لقد أحبها جدا، وآمن بها، وربما كان يرى نفسه داخل هذه المكتبة منذ زمن بعيد، كما سنتطلع له دوما، راجين ألا يسرق الزمن منا حصتنا من أحلامه بمكتبته.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق