حسب تعريف منظمة الشفافية الدولية التي يصدر عنها مؤشر مدركات الفساد، فإن الفساد هو إساءة استخدام السلطة لتحقيق مكاسب خاصة. انتشار الفساد وعدم مكافحته بالطرق المناسبة يصبح معيقا للتنمية الاقتصادية ويزيد من حدة الفقر نظرا لظهور التفاوت في الدخول بين أفراد المجتمع، الفساد يتواجد في جميع الدول سواء كانت متقدمة أو ناشئة أو دول العالم الثالث - إن جازت التسمية - مع كثافة انتشاره في الدول ذات الحروب الأهلية كما هو حاصل في الصومال وسوريا واليمن والتي جاءت في المراتب المتأخرة. أيضا على سبيل المثال، الولايات المتحدة الأمريكية الدولة المتقدمة علميا وتكنولوجيا، إلا أنها لم تحصل على ترتيب مرتفع، وإنما جاءت في المرتبة (28) عالميا. عليه فإن محاربة الفساد قد تنجح بمعرفة وفهم الطريقة والبيئة التي يعمل بها والأنظمة التي يستخدمها.
للفساد أنواع كثيرة منها: الرشوة والاختلاس وسوء استغلال السلطة أو الوظيفة كما إن بعض المحليين يرون بأنه عند محاربة الفساد يتم التركيز في الغالب على - فساد الفقراء - وهي الطبقة الضعيفة في المجتمع، بينما يكون هناك تراخٍ ومرونة مع - فساد الأثرياء - وهي الطبقة الأكثر نفوذا وقد تستخدم ثرائها في التأثير السياسي خدمة لمصالحها الخاصة. على كل حال، مؤشر مدركات الفساد يتم احتسابه عن طريق استطلاعات الرأي وأيضا مصادر البيانات والمعلومات من أكثر من مؤسسة دولية مستقلة، حيث يقع دور منظمة الشفافية الدولية في قياس مؤشر مدركات الفساد في تجميع تلك البيانات ووضعها في مؤشر يتكون من (100) درجة. فالدولة التي تكون قريبة من تلك الدرجة فإنها تصنف أقل فسادا وكلما قلت الدرجة صنفت الدولة بأنها أكثر فسادا.
إن الصعود التاريخي لسلطنة عمان في مؤشر مدركات الفساد لعام (2024) ليس من قبيل المبالغة ولكن الأرقام تعكس ذلك وهو حصولها على (55 من 100) درجة مرتفعة اثنتا عشرة درجة عن تقييم العام السابق وأيضا حصولها على المرتبة (50) عالميا من بين (180) دولة على مستوى العالم، كما جاءت في الترتيب الرابع خليجيا وعربيا مرتفعة عشرين مرتبة عن التقييم السابق. هذا الإنجاز يجب المحافظة عليه بتقليص تذبذب انسيابية وشفافية المعلومات والبيانات التي لا تتمكن بعض المؤسسات الدولية من الحصول عليها واستخدامها في التقييم السنوي. على سبيل المثال، الكتاب السنوي للتنافسية العالمية (IMD) والذي ظهرت به جميع دول الخليج العربية عدا سلطنة عمان ومشروع العدالة الدولية - مؤشر سيادة القانون - الذي غابت عنه أغلب دول الخليج العربية عدا دولة الكويت والإمارات العربية المتحدة. وبالتالي، الدول الخليجية التي حصلت على مراتب أعلى في مؤشر مدركات الفساد تبنت تنسيقا وتواصلا فعالا مع متطلبات مؤسسات التقييم الدولية.
على سبيل المثال، من المؤسسات التي تستخدم بياناتها في تحديد مدركات الفساد، مؤسسة برتلسمان التي تقيس مؤشر التحول حيث أعطت سلطنة عمان (21) درجة في تقييم المؤشر لعام (2024) وهي نفس الدرجة الممنوحة للعام السابق، أيضا انخفاض في تقييم خدمات المخاطر السياسية - دليل المخاطر الدولية - بمقدار ست درجات. في المقابل كان هناك ارتفاعا إيجابيا بثلاثين درجة لتقييم وحدة الاستخبارات الاقتصادية الإيكونوميست. في نفس السياق أيضا تحسنا في تقييم مؤسسة ستاندرد آند بورز - جلوبال أنسيت - التي تقيس تصنيفات مخاطر الدولة، بمقدار اثنتا عشرة درجة. المؤسسات التي تقيس مستوى المخاطر الدولية تعتبر مرجعا للبنوك المركزية وبيوت الاستثمار وبالتالي، كلما ارتفعت الدرجة كلما حصلت الدولة على ثقة أكبر لدى المؤسسات الدولية المهمة بتقييم المخاطر السياسية والمالية والاقتصادية، كما أن استطلاع المديرين التنفيذيين للمنتدى الاقتصادي العالمي أعاد تقييم سلطنة عمان بمنحها (82) درجة حيث لم يتم إدراج أية درجة في العام السابق.
يتضح بأن مؤشر مدركات الفساد لا يتم عبر مؤسسة واحدة وإنما من عدة مصادر من المعلومات والبيانات من مؤسسات التقييم الدولية المتخصصة في الجوانب السياسية والحوكمة والجوانب الاقتصادية والقضائية. هذه المنهجية في التقييم تعطي درجة عالية من الشفافية والاعتمادية والاستقلالية للنتيجة التي تحصل عليها كل دولة، وإن كان لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة دور محوري في متابعة مؤشر مدركات الفساد من خلال العمل المناط له وهو الإشراف على مكافحة الفساد، فإنه نظرا لتعدد المؤسسات الدولية المعنية بتجميع بيانات المؤشر، فهناك ضرورة لتكامل وتشارك الأدوار من جميع الجهات والشركات الحكومية والقطاع الخاص في توفير بيئة عمل تتصف بالنزاهة والكفاءة يغلب عليها خدمة الصالح العام والابتعاد عن المصالح الشخصية الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تحسن أفضل للمؤشر في السنوات القادمة.
كما أن البيانات والمعلومات التي يرتكز عليها مؤشر مدركات الفساد ينبغي أن يكون هناك تنسيقا فاعلا في تعريف تلك المؤسسات الدولية التي تقوم بتجميع البيانات، بأن سلطنة عمان مرت بمرحلة تحول تاريخي في جميع الجوانب السياسية والقضائية والرقابية والاقتصادية. كما يتطلب العمل على زيادة البيانات المفتوحة باللغة الإنجليزية في المنصات والمواقع الإلكترونية للجهات التي لها علاقة بمتابعة الخطط الاقتصادية والبيانات المالية المتعلقة بأداء الوحدات الحكومية. تعزيز جوانب الشفافية وتوفير البيانات والتقارير المالية والرقابية قد تكون أسهمت بشكل مباشر في تحسين المرتبة التي حصلت عليها سلطنة عمان للعام (2024). بمعنى هناك حاجة لزيادة فاعلية التواصل والتنسيق بين الجهات الحكومية المعنية بالمؤشرات الدولية وبين المؤسسات الدولية بطريقة أكثر احترافية لمنحهم البيانات المطلوبة لكي تستطيع تلك المؤسسات من منح التقييم الذي تناسب مع الجهود والتطور الذي تمر به جميع قطاعات الدولة.
تطور ملحوظ في الموقع الإلكتروني لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة من حيث تعزيز قيم الشفافية والإفصاح عن طريق ترجمة التقارير السنوية للجهاز إلى اللغة الإنجليزية. هذه الخطوات المتميزة - بلا شك - أسهمت في نشر الوعي لدى أفراد المجتمع من الجنسيات الأخرى والشركات التي عادة تستخدم اللغة الإنجليزية في نشر بياناتها المالية وأيضا تُسهم في نشر المعرفة للمؤسسات الدولية التي تقيس مؤشر مدركات الفساد. عليه يتطلب من الجهات التي تتابع المؤشرات الدولية ومنها المكتب الوطني للتنافسية ووزارة الاقتصاد أن تجري تحديثا لمنصاتها ومواقعها الإلكترونية لتكون أكثر تفاعلية.
تحسين مؤشر مدركات الفساد مهمة وطنية يعنى بها جميع قطاعات الدولة نظرا لتعدد مصادر البيانات والمعلومات والمؤسسات التي تقيس مدركات الفساد حيث تتعدى الجوانب المالية والرقابية وإنما هو تقييم شمولي لقطاعات الدولة التشريعية والتنفيذية القضائية، وبالتالي، قد يكون الوقت ملائما لإيجاد مركز للتواصل الدولي يعمل على التنسيق المستمر في معرفة المتطلبات والبيانات التي تحتاجها مؤسسات التقييم الدولية التي تقيس مؤشر مدركات الفساد. كما أن المركز من الممكن أن تسند إليه مهمة متابعة جميع مؤشرات رؤية عمان (2040) ليكون حلقة وصل تعمل بشكل مؤسسي مع المؤسسات الدولية لتفعيل التواصل والشراكة فيما تطلبه تلك المؤسسات من البيانات والمعلومات. مثل هذه التوجهات تعمل على تحسين الأداء السنوي في مؤشر مدركات الفساد والمؤشرات التي تتابعها الجهات المختصة بطريقة أكثر استدامة وفاعلية.
د. حميد البوسعيدي خبير بجامعة السلطان قابوس
0 تعليق