دروس لنهاية العالم من خلال حرائق كاليفورنيا - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

أظن أن (نيكي جيوفاني) كانت ستغفر لي لأنني خدعت مالك متجر كتب صغير في الشمال الشرقي قبل عامين، ذلك المالك الذي بدا غير مدرك تمامًا لأهمية بعض الكتب التي يبيعها، لم يكن هناك أي كتاب لشاعرات سوداوات في قسم الشعر بالمتجر، باستثناء مجلد واحد نحيف للغاية، لدرجة أنك قد لا تنتبه لوجوده إذا لم تكن مركزا جيدًا، ذلك النوع من الانتباه الذي يأتي حينما تكون في حالة ذهول بسبب عدم وجود تنوع في الكتب المعروضة، كان ذلك الكتاب هو «بلاك جَجْمِنت» أو الحكم الأسود لجيوفاني، كان كتاب جيوفاني «الحكم الأسود» في الأصل أقرب إلى كتيب صغير منه إلى مجلد تقليدي، حيث كانت صفحاته ببساطة مترابطة معًا، ولا يوجد غلاف خارجي يحمل عنوانًا لتنبيه الباحثين إلى وجوده، وهذه إحدى معجزات الانتباه الدقيق، حتى لو كان هذا الانتباه الدقيق ناجمًا عن الحيرة، إنها لمعجزة حقا ألا تعرف حقًا ما الذي تبحث عنه حتى تجده.

نُشر كتيب القصائد «الحكم الأسود» عام 1968، وهو أحد أقدم وأكثر الأعمال ثورية لنيكي جيوفاني، التي توفيت في ديسمبر عن عمر يناهز واحد وثمانين عاما، الإصدار الأول، بغلافه البني الداكن الذي تزينه رسومات لرجال سود، نادر جدًا، في إحدى المقابلات، قالت جيوفاني إنها كتبت الكتاب لوالدتها، لأنها اعتقدت أنه قد يكون الكتاب الوحيد الذي ستكتبه على الإطلاق، وقد كان هذا الشعور مألوفًا بالنسبة لي، فأنا أُعجَب بالكتّاب الذين يؤمنون بأنهم سيكتبون عددًا لا نهائيًا من الكتب، لكنني لا أشعر بأنني واحد منهم.

كان السعر المدون على ظهر كتاب «الحكم الأسود» في ذلك المتجر الصغير خمسة وعشرين دولارًا، وهو ما جعلني أدرك أن صاحب المتجر إما لا يعرف قيمة ما لديه أو لا يهتم بذلك، وبعد لحظة وجيزة من التفكير، تخيلت خلالها نفسي أندفع نحو طاولة المحاسبة، وأوجه هاتفي نحو المالك وأخبره بكل المعلومات عن مدى ندرة هذا الكتاب ومدى قيمته، لكنني قررت حينها أن أدعه غارقًا في جهله، فلا شأن لي بذلك، بالإضافة إلى ذلك، كما كتبت جيوفاني ذات مرة: «يجب أن نمضي قدمًا إلى القضايا الحقيقية في عصرنا»، وبالنسبة لي، في تلك اللحظة، كانت القضية الحقيقية هي إنقاذ هذا الكتاب من هذا المكان وإعادته إلى المنزل قبل أن يطرح أحد أي أسئلة، شعرت وكأنني أفلت بفعلتي، وأحيانًا يكون هذا كل ما يتطلبه البقاء على قيد الحياة.

في اليوم السابق لاندلاع الحرائق في لوس أنجلوس، جلست في سريري أشاهد دقيقة واحدة من فيديو مركّب مولد بالذكاء الاصطناعي، نشره موسيقيٌّ على إنستجرام، كانت هذه أطول مدة قضيتها في مشاهدة فيديو من إنتاج الذكاء الاصطناعي حتى تلك اللحظة، وقد بقيت أشاهده مدفوعا بإحساس جديد من اليأس والإحباط، لم يكن الفيديو فريدًا من نوعه؛ بل كان مجرد نسخة متحركة من صور الذكاء الاصطناعي التي رأيتها منتشرة عبر الإنترنت منذ شهور.

كان عبارة عن سلسلة من الموسيقيين الراحلين، أعيدوا إلى الحياة، يتجولون في داخل مبنى يشبه المتحف، يحدقون في صور أغلفة ألبوماتهم القديمة، حتى تبدأ تلك الأغلفة نفسها بالتحرك بطريقة تفتقر إلى الروح، نسخة الذكاء الاصطناعي من مغن الراب «نوتوريوس بي. آي. جي» تواجه نسخة الذكاء الاصطناعي من صورته الطفولية على غلاف ألبومه «ريدي تو داي»، كلاهما الآن أحياء، يحدقان في عيون بعضهما البعض، لم أكمل الفيديو، ولم أفهم تمامًا ما الذي كان الناس يهدفون إليه من خلال نشره، على الرغم من فكرته التي تدور حول الإحياء، إلا أن اللقطات بدت بلا حياة تمامًا، مثل قائمة من المهام غير المكتملة، كان هناك العديد من التعليقات التي انتقدت الفيديو، لكن بعض الأشخاص وصفوه بأنه «مؤثر»، أو بأنه يستحضر «مشاعر الحنين».

لم يكن يأسي ناجمًا فقط عن التكنولوجيا ذاتها أو تأثيرات الذكاء الاصطناعي على المناخ، بل أيضًا عن مدى سهولة انبهار الناس به، (انظروا، صورة أخرى لموسيقيٍّ متوفٍ يصافح زعيمًا سياسيًا أسود من جيل مختلف تمامًا!)، يزداد يأسي أيضًا بسبب سهولة الهروب من الواقع في عالم يتطلب مزيدًا من التدقيق كل يوم، وبالطبع، الهروب من الواقع هو مسألة عرض وطلب، فكلما زادت متطلبات الحياة التي يفرضها العالم على الناس، زادت الفرص التي يقدمها لهم للابتعاد، أشعر أيضًا باليأس بسبب الطريقة التي يعامل بها المجتمع الموتى، لا أرغب في صورة مولدة بالكمبيوتر لموسيقيٍّ راحل كنت أستمع إليه أو أحبه، ولا أرغب في أي تكنولوجيا قد تعيد والدتي الراحلة إلى الحياة، أو تسمح لي بسماع صوتها أو ضحكتها مرة أخرى، أؤمن بأن ما يجعل الموتى مستحقين لحزننا (وأعني بذلك ذكرياتنا وحنيننا وعواطفنا تجاههم) هو أنهم لن يعودوا أبدًا.

في عام 2023، بعد أن قدمت نيكي جيوفاني عرضًا في أكاديمية بروكلين للموسيقى، ضمن سلسلة برامج أشرفتُ على تنظيمها بأسلوب أناني إلى حد ما يتماشى مع أذواقي ورغباتي الشخصية، التقطنا معًا عدة صور، وفي الصورة التي أحبها أكثر، كانت جيوفاني توقّع نسختي من كتاب «الحكم الأسود»، الذي أحضرته معي بقلق من كولومبوس إلى نيويورك في صباح ذلك اليوم، كانت مندمجة تمامًا في عملية توقيع اسمها، وقبل لحظات، كانت تحمل الكتاب بين يديها بِشيء من الرِقة، تتفحصه وتقلبه بحذر، وهي تتمتم بهدوء عن مدى طول الفترة التي مرت منذ أن أمسكت بإحدى تلك النسخ المبكرة.

ردًا على ذلك، أخبرتها بأنها تستطيع الاحتفاظ بالكتاب، فهو كتابها في النهاية، بمعنى أنها هي من جلبته إلى الوجود. ضحكت وأخبرتني أنها أصبحت كبيرة في السن بما يكفي لتتوقف عن جمع أشياء من ماضيها. لم أفكر، حتى وقت لاحق، في الفرق بين ماضيها والماضي نفسه. فأنا أُكدّس الأشياء من ماضٍ يعود إلى الجميع ما عدا نفسي. مجلات قديمة، وأسطوانات قديمة، وقمصان وجاكيتات من حفلات موسيقية قديمة، وكتب قديمة لشعراء أحبوها ولم يكن لديهم موارد كافية سوى لطباعة عدد محدود من النسخ، انتهى الأمر بإحداها وهي تتلاشى في رف مكتبة بالكاد يراها أحد.

ليس لدي في منزلي صور لي وأنا طفل، ولا صور لأمي أو أبي. لا توجد علبة تحتوي على رسوماتي المدرسية من المرحلة الابتدائية أو أوراق اللغة الإنجليزية من المرحلة الثانوية. لا يوجد رف لجوائز رياضية من الماضي. كنت أعتقد دائمًا أنني عشت تلك اللحظات، ولا أحتاج إلى الكثير منها مرة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، إذا بقي ماضيّ الفعلي في متناول يدي، فكيف لي أن أصوغ ذكرياته في شيء أكثر رومانسية مما كانت عليه في الواقع؟

في الصورة التي التُقطت مع جيوفاني، أضع يدي على قلبي، وأراقبها بينما توقع اسمها في كتابها القديم. أبتسم بطريقة تبدو لي وكأنها تعبير عن ارتياح ما. ربما كان ذلك ارتياحًا لأننا وصلنا معًا إلى هذه اللحظة؛ لأننا وجدنا بعضنا البعض ونحن لا نزال على قيد الحياة. عندما أنظر إلى الوراء الآن، أود أن أعتقد أنه كان من السخف أن أفكر في الموت خلال ذلك اللقاء مع جيوفاني، الذي بدا لي آنذاك، ولا يزال، واحدًا من أكثر التفاعلات التي أعتز بها في حياتي. وبدلًا من ذلك، سأقول إنني كنت أفكر في الزمن، كيف يتسلل منا في أجزاء لا تبدو دائمًا كأنها أجزاء. بطء مرور الوقت، بالنسبة لي، كان يعتمد غالبًا على القصة التي يمكنني استخراجها من الزمن الذي قضيته. وما يمكن أن يُروى لشخص آخر، ثم يُروى لشخص آخر من بعده. إذا كنت محظوظًا، فقد تبدو بعض الدقائق وكأنها تحتوي على أجيال بأكملها داخلها.

بعد يوم واحد من اشتعال الحرائق في كاليفورنيا، بدأت منشورات عن رواية أوكتافيا إي. بتلر «مثل الزارع»، التي صدرت عام 1993، تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي. أعرب الناس عن دهشتهم من أوجه التشابه بين أحداث الرواية والواقع الحالي، ولا أستطيع أن ألومهم. فعلى السطح، هذه التشابهات تثير الإعجاب، تمامًا كما تفعل أي مصادفات ظاهرية. تبدأ الرواية في عام 2024، وسط انهيار بيئي في كاليفورنيا. وُلدت بتلر نفسها في باسادينا وعاشت في مجتمعات السود هناك وفي ألتادينا، وهما منطقتان تضررتا بشكل خاص من الحرائق الأخيرة. استحضرت هذه الحقائق البيوغرافية كدليل على أن بتلر، بحكمتها، قد تنبأت بمستقبل بات الآن وشيكًا، قريبًا بما يكفي ليلمسه المرء، وقريبًا بما يكفي ليخافه.

في أحداث رواية «مثل الزارع»، لورين فتاة سوداء تبلغ من العمر 15 عامًا تعيش في لوس أنجلوس، في طريق مسدود محاط بجدران، ما يجعله ملاذًا آمنًا وسط عالم يعاني من اليأس والانحطاط الناجم عن كوارث المناخ وغيرها من الأزمات. الجفاف منتشر، والطعام نادر، ونعم، هناك حرائق. تعاني لورين من فرط التعاطف، ما يجعلها تشعر بآلام وأفراح الآخرين وكأنها تعيشها بنفسها. وعندما تتعرض منطقتها للهجوم، تهرب لورين، وتنطلق في رحلة شمالًا مع اثنين من الناجين الآخرين من منطقتها. تحلم لورين بزيارة كواكب جديدة لنشر معتقدها، وهو دين يسمى «بذرة الأرض»، الذي يقوم على فكرة أن «الله هو التغيير».

أهم درس استخلصته من رواية «مثل الزارع»، وهو درس يتكرر في أعمال بتلر، هو الابتكار والتكيف اللذان يتطلبهما البقاء في وجه المستحيل. عندما يتم تقديم حي لورين في بداية الرواية، يبدو وكأنه مجتمع منعزل يبذل قصارى جهده لرعاية أفراده في زمن الشح. يكرس السكان أنفسهم لمهام متعددة، سواء كانت الوعظ أو الزراعة أو الطهي أو تعليم الدفاع عن النفس. وعندما تنطلق لورين في رحلتها، ينمو عدد رفاقها، ويحمي بعضهم بعضًا في عالم انهار بالفعل من جميع النواحي المهمة تقريبًا. هناك اقتباس شهير لبتلر يظهر كثيرًا في مثل هذه الأوقات:

«ليس هناك إجابة واحدة ستحل جميع مشاكل مستقبلنا. لا توجد رصاصة سحرية. بدلاً من ذلك، هناك آلاف الإجابات، على الأقل. يمكنك أن تكون إحداها إذا اخترت ذلك».

هذا الاقتباس بمفرده يؤدي الغرض التحفيزي، على ما أعتقد، أو على الأقل لديه ميزة الظهور بشكل جميل عند ترتيبه على شبكة إنستغرام. لكن السياق الذي أُخذ منه يقدّم تحليلا أكثر وضوحًا لكيفية تكرار الماضي والحاضر في دورة لا نهائية. بعد إحدى محاضرات بتلر، سألها أحد الطلاب عمّا إذا كانت تعتقد أن المستقبل سيشهد المشاكل التي كتبت عنها في «مثل الزارع». أجابت بتلر أنها لم تخترع هذه المشاكل؛ لقد لاحظت فقط المشاكل الموجودة بالفعل ورأت أنه لا أحد يسعى لحلها. ثم سألها الطالب عن الحل، فأجابت بأنه لا يوجد حل واحد.

«هل تعنين أننا محكوم علينا بالفشل؟» سأل الطالب.

عندما أعادت بتلر سرد القصة، أشارت إلى أن الطالب قال ذلك مبتسمًا، كما لو كان يعتقد أن الأمر مجرد مزحة.

في وقت متأخر من اليوم الثاني للحرائق، لاحظت صورة لافتة هوليوود وهي تشتعل بالنيران. كنت أتبادل الرسائل مع عدد من أصدقائي، نجمع المعلومات من آخرين في لوس أنجلوس لمعرفة إلى أين يأخذ الناس أطفالهم، ومن يمكننا مساعدته للوصول إلى سيارة أو ربما إلى طائرة. بدا أن هناك حريقًا جديدًا يندلع كل لحظة، ربما أكثر من واحد، ثم جاءت رسالة من صديق: «انظروا! الآن لافتة هوليوود نفسها تحترق!» وأرفق الصورة في المحادثة فورًا تقريبًا.

لكن الصورة لم تكن حقيقية، ولم تخضع لأي تدقيق بسيط. وبمجرد أن تجاوزتُ وأصدقائي صدمتنا الأولية، أصبح واضحًا أنها صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي. كانت من نوع الصور المصممة لإثارة تفاعل معين عبر الإنترنت، الصورة التي يمكن لشخص ما أن ينشرها مع تعليق مثل «لا داعي لأي تعليق إضافي». الصورة نفسها أصبحت لغةً، القصة بأكملها، تقدم نوعًا من السرد المريح. وحتى بعد أن أدرك الناس أن الصورة مزيفة، تمسك كثيرون بمعناها السهل: إنها مجرد استعارة.

أزعجني هذا لأسباب متوقعة. فقد تبين أن الصورة التي كان من المفترض أن تكون قوية بما يكفي لنقل قصة كاملة كانت مزيفة، ومع ذلك كان الناس يائسين للغاية في البحث عن قصة لدرجة أنهم سعوا للحصول عليها في أي مكان، حتى من مصدر يعرفون أنه غير معروف. ماذا يعني ذلك بالنسبة للقصة، وللناس أيضًا؟ كان هناك مكان يحترق بالفعل. وكانت أدلة الدمار تغرق شاشاتنا. لم تكن هناك حاجة إلى استعارات، التي بدت لي وكأنها رفض لمواجهة حقيقة العالم الذي يحترق: «انظروا، هذا الموقع ليس مشتعلًا فعليًا، لكنه قد يكون كذلك، أليس هذا أمرًا مثيرًا للتفكير؟»

العالم سيئ، لكنه قد يكون أسوأ. الخبر السار إنه ليس كذلك! على الأقل، ليس بهذا الشكل! لكن، تخيلوا لو كان الأمر كذلك!

أعترف أنني شعرت بالخجل أيضًا، لأن هذه المسألة منحتني، للحظة، نوعًا من الغفلة عن حقيقة أن هناك مدينةً تحترق، مدينة بها أشخاص أحبهم، وأشخاص لا أعرفهم إطلاقًا لكنهم قد يكونون بحاجة إلى شيء يمكننا نحن الباقين تقديمه. كنت أتصفح قسم التعليقات أسفل صورة معدلة، ما يعني أنني كنت أتجاهل أسئلة ملحة من أصدقائي في لوس أنجلوس، الذين كانوا يخططون للمجيء والإقامة معي في أوهايو لبعض الوقت. هذا، أيضًا، أحد وظائف الاختراع، وهو أن يمنح الناس شيئًا يشدّهم بعيدًا عن الواقع، عن شيء يتوسل لجذب انتباههم وأفعالهم واهتماماتهم.

ذلك السطر، «يجب أن نمضي قدمًا إلى القضايا الحقيقية في عصرنا»، مأخوذ من قصيدة لنيكي جيوفاني بعنوان «ملاحظة تاريخية للنظر فيها فقط عندما تفشل جميع الحلول الأخرى»، والتي تم تضمينها في مجموعتها «الحكم الأسود». إنها قصيدة ساخرة، مليئة بالمجازات اللغويّة وروح الفكاهة التي تمكنت جيوفاني من إدخالها في أعمالها طوال مسيرتها المهنية، دون أن تضعف نزعتها الثورية. مثل أوكتافيا بتلر، أو جون جوردان، أو غلوريا نايلور، ومثل العديد من الكاتبات السوداوات اللواتي نشأن وهن جزء من عالمي الأدبي، كانت جيوفاني كاتبة تراقب الواقع، لكن كل واحدة منهن صاغت ملاحظاتها بأسلوبها الفريد. بتلر، على سبيل المثال، اعتمدت على التحذير المباشر، بينما برعت جوردان في المخاطبة الصريحة للجمهور، وطرحت أسئلة مشحونة، كما في قصيدتها «قصيدة عن عنف الشرطة»، التي تبدأ بالسؤال:

«أخبرني شيئًا

ماذا تعتقد سيحدث لو

في كل مرة يقتلون فيها صبيًا أسود

نقتل شرطيًا؟»

بعد إصدار رواية «الحكم الأسود»، نشرت جيوفاني أعمالًا أصبحت أكثر شهرة، وأخرى يعدها البعض أكثر نضجًا وصقلًا، لكن هذه المجموعة تبرز بالنسبة لي لأنها تحمل إحساسًا بالشباب، وخفة الروح، وانطلاقًا لا يخلو من الجدية، لكنها لا تأخذ نفسها على محمل الجد بشكل مفرط. أحب ذلك السطر الذي يقول إن علينا أن نمضي قدمًا إلى القضايا الحقيقية في عصرنا، لكنه، مثل اقتباس بتلر عن عدم وجود حل واحد لمشاكل المستقبل، لا يكون بنفس القوة دون السياق الذي يليه. فالقصيدة تحذير للقارئ من أن يصبح ضحية لسخافات العصر المصطنعة. «البلوز والإيقاع ليسا سبب انهيار حضارة عظيمة،» تكتب جيوفاني. فهناك عمل حقيقي يجب إنجازه:

«يجب أن نمضي قدمًا إلى

القضايا الحقيقية في

عصرنا

مثل ثورة التنانير القصيرة

وربما نلقي نظرة

أقرب على

قوة الدقيق

إنه واجبنا

أن نقود شعبنا

خارج حانات النبيذ

إلى الشوارع

إلى الشوارع»

في أكتوبر 1993، بعد فترة وجيزة من إصدار رواية «مثل الزارع»، اجتاحت حرائق كينيلوا جنوب كاليفورنيا، ودمرت ما يقرب من مئتي مبنى في ألتادينا والمناطق المجاورة مثل كينيلوا ميسا. بحلول ذلك الوقت، كانت كاليفورنيا قد وصلت إلى نهاية جفاف استمر لسنوات، وجلب شتاء أوائل عام 1993 أمطارًا غزيرة غير معتادة، مما أدى إلى نمو نباتي كثيف في الربيع، تحول بحلول أكتوبر إلى أعشاب يابسة قابلة للاشتعال. لم يكن حريق كينيلوا الوحيد الذي اندلع في جنوب كاليفورنيا خلال ذلك الشهر؛ فقد اشتعل حريق لاجونا في اليوم نفسه، وأحرق أكثر من ستة عشر ألف فدان، مدمّرًا مئات المنازل. لكن حريق كينيلوا كان الأقرب إلى المجتمع الحقيقي الذي كانت بتلر تعيد تخيله في رواية «مثل الزارع»، التي صدرت قبل أسابيع فقط من اندلاع تلك الحرائق الفعلية.

في رواية «مثل الزارع»، تمثل النار النهاية، لكنها تمثل أيضًا نوعًا من الحرية. فتبعاتها تتيح فرصة لتخيّل عالم متجدد، بمتطلبات جديدة من أجل البقاء.

الناس ليسوا مخطئين عندما يقولون إن أوكتافيا بتلر تنبأت بالمستقبل، لكنهم لا يكونون دائمًا واضحين بشأن نوع المستقبل الذي كانت تتخيله. لم تكن بتلر هي من اخترعت الحرائق، أو تعاطي المخدرات، أو انخفاض معدلات معرفة القراءة والكتابة، كل تلك المشاكل كانت موجودة بالفعل أمامها لترصدها.

ما تتخيله رواية «مثل الزارع»، بدلاً من ذلك، هو مستقبل يتطلب فيه البقاء على قيد الحياة وسط ما يبدو أنه مستحيل النجاة منه أن يتحلى الناس بقدر من المرونة العاطفية، وأن يكونوا قادرين على التخلي عن أنانيتهم والنظر فيما إذا كانوا يمتلكون شيئًا قد يحتاجه شخص آخر. هذه هي نقطة البداية لفكرة المساعدة المتبادلة، ما الذي أملكه ويكون ذا فائدة لشخص آخر؟ أعمال بتلر ترسم ملامح مستقبل يكون فيه طرح هذا السؤال ضرورة.

إن رواية «مثل الزارع» لا تتحدث فقط عن زمن وحريق ومكان معين؛ إنها تتحدث عن الناس، وعن قراراتهم بشأن نوع النهاية التي سيواجهونها، ثم كيف سيعيشون بعدها.

ربما يكون من المفيد أيضًا أن نكون صادقين بشأن ما هو موجود بالفعل. رواية «مثل الزارع» تتحدث عن مستقبل مشتعل، لكن الواقع الذي عاشته بتلر كان مشتعلًا أيضًا. لا يمكننا دائمًا النظر إلى المستقبل. كارثة المناخ ليست قادمة، بل هي هنا بالفعل، منذ سنوات، في الواقع، معظم السنوات التي عشتها كانت في ظل هذه الأزمة المتسارعة. الأزمات حاضرة، تتسارع، ولا تهتم حقًا بما إذا كنا، أنا أو أنت أو أي منا، نلاحظ وجودها. إن الأزمات قد حلت علينا بالفعل، وهي تتسارع بسرعة، غير مبالية بما إذا كان أي شخص آخر قد انتبه لها أم لا. إنها لا تسعى إلى الاعتراف بها، ولا تتطلب اعترافنا بها. وسوف ينهار العالم بغض النظر عن موافقتنا. والحقيقة أن العالم كما نعرفه قد انتهى مرات لا حصر لها -بشكل خفي وكارثي- سواء اخترنا الاعتراف بذلك أم لا.

نعم، إن مصيرنا محتوم، ولكن ليس باليأس، بل بضرورة التكيف، وإعادة تعريف وسائل الراحة التي نتمتع بها والتخلي عنها عندما تدعو الحاجة إلى ذلك. ومثل شخصيات بتلر، فإننا نملك القدرة على تشكيل نوع نهاية العالم التي سوف نواجهها. ولكن ليس بوسعنا أن نقود الجميع إلى مكان أفضل ـ ولن ينجح الجميع في الوصول إلى هناك.

المقبرة في ألتادينا، حيث دُفنت بتلر، اشتعلت فيها النيران، رغم أن قبرها الفعلي ظل سالمًا. نسختي من «الحكم الأسود» فقدت دبابيسها الضعيفة وتفتت أثناء سفري، وأضعت صفحة منها في المطار. بالطبع، هذه خسارات غير متكافئة، إن كان يمكن حتى اعتبار الثانية مأساة. لكن في العام الماضي، عندما كنت أجوب البلاد مروجًا لكتاب كتبته عن الفناء والزمن، كنت أتلقى الكثير من الأسئلة عن الإرث، إرثي وإرث الآخرين. وكنت دائمًا أجيب بأنني لست مهتمًا بالإرث، وأنني سأشك في نفسي إن قضيت وقتي وأنا على قيد الحياة منشغلًا بماذا سيحدث لي عندما أكون تحت الأرض.

لكن أعتقد أنني أرغب في تعديل إجابتي الآن. سُئلت في إحدى المقابلات إن كنت أخشى أن ينساني الناس. لا أذكر ما كان جوابي الفعلي حينها، لكن الجواب الذي كنت أتمنى أن أقدمه هو أن خوفي الأكبر ليس النسيان، بل أن يتم تحريف ذكراي، أن أكون غائبًا ويتم إحياء ما قلته أو فعلته، واختزاله إلى مجرد محتوى سريع الجذب للتفاعل. أو الأسوأ، أن تتم إعادتي رقميًا إلى الحياة في خدمة شيء تافه، مجرد لحظة شعور جيد عابرة لا أكثر.

هناك الكثير مما لا يمكن استعادته، وأحزن لأنني لم أعد أستطيع الإمساك به. عندما اتصلت بي إحدى صديقاتي لتخبرني أن منزلها احترق بالكامل، وأنها لم تستطع أخذ سوى بعض الأشياء، بدأت بشكل غريزي في سرد قائمة بكل ما لن تراه مجددًا. خاتم زفاف جدتها، الذي لم تفكر في وضعه على إصبعها قبل أن تغادر، وأشرطة تسجيل لوالدتها الراحلة وهي تغني، وبطاقات كرة السلة الموقعة لزوجها من طفولته. لم أقاطعها وهي تعدّد تلك الأشياء، لأنني فهمت أن ذلك كان أكثر من مجرد كلام بالنسبة لها، كان تمرينًا في استيعاب الخسارة. أفهم هذا الجانب من الفقد، ممارسة سرد كل ما لا يمكن استرجاعه، على الأقل ليس في شكله الأصلي.

أحزن على أشياء كثيرة؛ ويتغير محرك حزني، أحيانًا كل ساعة. أحزن على عالمنا الذي يزداد عدائية واستحالة للسكن، وأحزن على القسوة التي جعلته كذلك، سواء كانت قسوة ممنهجة أو تلك التي يمارسها الأفراد ضد بعضهم البعض. لكن اليوم، أحزن لأنني أجد صعوبة في استيعاب حجم الخسائر المادية للأشياء ذات المعنى، تلك الأشياء التي أعرف أنني ألقيتها بلا مبالاة على طاولة، مثل بعض كتابات أمي القديمة من سبعينيات القرن الماضي، التي تركتها مرمية حتى اليوم الآخر، رغم أن أصدقائي كانوا يزورونني ويقولون بقلق: «ألا يجب أن تضعها في مكان آمن؟»

نعم، فقدان المنزل نفسه مأساة، لكن هناك عوالم كاملة داخل الأشياء التي كانت فيه، هناك عالم كامل في صفحة واحدة من كتاب تطير بعيدًا وأنت تركض للحاق برحلة الطيران. هناك عالم كامل في اقتباس، عالم كامل في تأويلات كتاب يتوسل للبشرية أن تجد طريقة للبقاء عندما يصبح محيطها غير قادر على إعالتها بعد الآن.

في غياب الكلمات، لا ترسلوا لي صورًا أو مقاطع فيديو يفترض أنها تحمل رسالة عميقة. أُفضّل الصمت. أفضل الجلوس في غرفة فيها شخص يمسك في يديه شيئًا أنقذه من نهاية العالم هذه المرة، شيئًا يذكره بشخص آخر.

في العام الماضي، تلقيت هدية، عبارة عن صورة مؤطرة لتلك اللقطة التي كنت فيها مع جيوفاني، أنظر فوق كتفها، ويدي على قلبي. في ذلك الوقت، فكرت: «أنا لا أضع صورًا لي في منزلي. لا أحتاج إلى أن أعيش في ماضيّ؛ ماضي الآخرين يكفيني.» لكن بعد ذلك، رحلت جيوفاني، فوجدت رفًا لأضع عليه الصورة. لا شيء دائم هنا، أو في أي مكان، لكن اليوم للصورة مكانها، وأتمنى أن أستطيع قول الشيء نفسه غدًا.

حنيف عبد الرقيب كاتب مساهم في مجلة النيويوركر، من الجانب الشرقي لمدينة كولومبوس، أوهايو.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق