محمد جبريل: نفتخر بالحركة الأدبية في عُمان.. ونجيب محفوظ سيد الرواية بلا منازع - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

رحل عن عالمنا الشهر الماضي الأديب والروائي المصري محمد جبريل بعد حياة حافلة بالإبداع تُوجت في عام 2020 بحصوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب. استمر الراحل في الكتابة مدة تصل إلى نصف قرن بقي فيها وفيا للقصة القصيرة والرواية وبقي متصلا بالأجيال الجديدة في مصر والعالم العربي عبر ندوة أسبوعية استمرت قرابة 35 عاما نقل خلالها خبرة جيله للأجيال التي تشكلت وفق معايير ثقافية وكتابية مختلفة.

قدَّم الراحل للمكتبة العربية أكثر من 85 كتابا تنوعت بين القصة والرواية والدراسات الأدبية، كما سجّل الراحل حضورا كبيرا في الصحافة الثقافية، وهو أحد الأسماء التي ساهمت في تأسيس جريدة الوطن العمانية في مرحلة سبعينيات القرن الماضي وأحد الأسماء التي كان لها السبق في تأسيس الصحافة الثقافية في عُمان عبر صفحات جريدة الوطن.

وكنتُ قد أجريت مع الراحل حوارا طويلا نشرته في قناتي على اليوتيوب.. ومع خبر وفاته ووفاءً له ولدوره في مرحلة تأسيس الصحافة العمانية ولدوره الإبداعي في العالم العربي أعيد صياغة جزء من ذلك الحوار بما يتناسب مع النشر الورقي في ملحق جريدة عمان الثقافي:

***

تجربتي في سلطنة عمان بدأت بتصور مغلوط عن مدينة مسقط، إذ كنت أراها مجرد دوّار أمام البيت الكبير، حيث يقف رجل شرطة ينظم حركة السير. كانت تلك الصورة تبرز دائما في الصحف، وكانت تمثل مسقط بالنسبة لي. لكنني لم أكن أعرف شيئا عن المدينة، وكانت غامضة في ذهني حتى جاءني المرحوم الشيخ سليمان الطائي في القاهرة وعرض عليّ أن أتولى تحرير جريدة الوطن. استفسرت منه عن ظروف الجريدة، فعرفت أنها كانت تصدر بشكل متباعد وتواجه صعوبة في الاستمرارية، كما كانت تُطبع في بيروت وأحيانا في الكويت، مع غياب أسرة تحرير مستقرة.

وصلت مسقط ذات فجر من عام 1976، وأقمت في فندق الكورنيش المطلّ على سوق السمك في مطرح. استفقت في اليوم الأول على صوت الباعة الذين كانوا يملؤون المكان، وظننت أنني في القاهرة بين الصحو والنوم. جاءني الشيخ سليمان الطائي ومعه حسين مرسي، الإداري الذي كان يشرف على مهام الجريدة، ثم ذهبنا إلى مقر الجريدة الذي كان وقتها متواضعا بجانب النادي الأهلي. كان هناك بائع آسيوي يبيع المأكولات يُدعى محيي، وكان يستمع دوما إلى أغنية «أروح للملا علي وأقول له يا ملا علي»، حتى حفظتها من كثرة سماعي لها.. كان أمامنا أيضًا دكان لتقطيع اللحم، الذي كان يمثل مكانا حميميا.

يواصل جبريل حديثه بالقول: بدأت العمل في الجريدة، وكان في ذهني إصرار على تقديم شيء مختلف. وضعت خطة للصحيفة، وكنت أطمح إلى تجربة مشابهة لتجربة مجلة «الحوادث» اللبنانية التي أصدرها سليم اللوزي.

في البداية، واجهنا تحديات كبيرة بسبب أن عمال المطابع لم يسبق لهم إصدار صحف، كما أنني لم أكن متمرّسًا على تقنية الطباعة أوفست. لكننا تجاوزنا الأخطاء التي وقعنا فيها وبدأنا ننتظم في الإصدار. وصلني إحساس كبير بالنجاح عندما جاءني الأستاذ عبدالعزيز الرواس، وزير الإعلام في ذلك الوقت، وقال لي: «أنت أفضل من جريدة عمان»، على الرغم من أنني كنت أعمل وحدي، بينما كان طاقم جريدة عمان كبيرا.

يضيف جبريل: كان العمل في الجريدة مرهقًا للغاية. لم أكن أستطيع زيارة سلطنة عمان بشكل كافٍ، إذ كنت أعمل طول اليوم في الفندق أو في الجريدة. أحيانًا، كنا أنا وزوجتي نأكل الطعام من الثلاجة باردًا لعدم وجود وقت لتسخينه. أذكر أيضًا أنني كنت أذهب إلى الجريدة في الثالثة صباحًا، حيث كان يزورني شاب طموح محب للصحافة هو عبدالحميد الطائي، الذي أصبح فيما بعد أحد الأركان الأساسية للجريدة.

كانت الجريدة تصدر 12 صفحة أسبوعيًّا، وأحيانًا تصل إلى 16 صفحة، إذا استطعنا الحصول على إعلانات، لكننا واجهنا صعوبات مع المعلنين الذين كانوا يمتنعون عن الإعلان بسبب عدم انتظام صدور العدد. كان من الصعب إدارة الإعلانات بسبب التغيرات المستمرة في المواعيد، لكننا تمكّنا من تصحيح الوضع بعد فترة من الزمن، وأصبحت الجريدة تصدر بشكل أسبوعي ثابت.

في البداية، كنت أنا «أسرة التحرير» بالكامل. كنا نكتب المادة، نطبعها، نصححها، ثم أبدأ بتنسيق الصفحات. كان عملنا يعتمد على المجهود الفردي بشكل كبير، لكن الشيخ سليمان الطائي كان متحمسا جدا لدعمي، وحاول تسهيل كل العقبات التي واجهتنا. بعد وفاته، استمرت الجريدة بفضل دعم ابنه، الأستاذ محمد الطائي.

أذكر أنني أخبرت محمد الطائي في وقت لاحق أنني قررت أن أكرس نفسي للكتابة الأدبية، وأنني قد قدّمت كل ما لديّ للجريدة.

ويتحدث محمد جبريل عن الكتّاب الذين عاصرهم فيقول: أذكر بعض الأسماء مثل محمود الخصيبي -رحمه الله-، وسعود المظفّر، وزاهر الغافري. كما كان الأستاذ أحمد الفلاحي من الأسماء البارزة في ذلك الوقت.. كانوا قلة في البداية، ولكن سرعان ما نمت حركة أدبية في عُمان وأخذت تتطور يوما بعد آخر إلى أن أصبحت اليوم مصدر فخر على المستوى العربي.

ويتحدث جبريل عن الشاعر الشيخ عبدالله الخليلي باعتباره «مثالًا للمبدع المثقف والإنسان المتكامل خلقًا وعلمًا وإنسانية. يقول: زرته في سمائل، حيث وجدته يفيض علمًا، وكان هدوؤه وسموّ أخلاقه يترك انطباعًا عميقًا لدى كل من يلتقيه.. كان شخصًا استثنائيًّا، تتجسد فيه كل صفات الإنسان السويّ. أما هلال السيابي، فلم أتابعه كثيرًا كشاعر، لكنه كان صديقا مقربا، وكان يشغل منصب مدير الرقابة. حتى في اختلافاتنا، كان يعبّر عن رأيه بمحبة ولم تصل خلافاتنا يوما إلى الحدة. بعد مغادرتي عُمان، تواصل معي طالبًا لقاء، وكان من دواعي سروري أن نجلس ونتحدث مجددا.

أما عن الحياة الاجتماعية في مسقط، فيقول محمد جبريل: لم يكن لدي وقت كافٍ لحضور المناسبات أو زيارة مختلف المحافظات، كنتُ بين جريدة الوطن ومنزلي فقط، وكأن حياتي محصورة بين هذين المكانين. ورغم إقامتي في عُمان لمدة ثماني سنوات، لم أتمكن من استغلال الفرصة لاكتشاف البلد كما كنت أتمنى. رأيت نزوى يوما واحدا، وسمائل عندما التقيت بالشيخ عبدالله الخليلي، وزرت بهلا زيارة عابرة، وكذلك السيب.

يضيف جبريل: لكن الجريدة كانت تحديا كبيرا، إما أن أنجح أو أفشل، ولذلك كنت أكرّس لها كل وقتي. حتى خلال الرحلات بين مسقط والقاهرة، كنت أقضي وقتي على الطائرة أخطط لما سأفعله في الجريدة عند عودتي. خلال تلك السنوات، لم أنشر سوى مجموعة قصصية واحدة بعنوان «نكسات الأيام العصيبة»، لكن بعد مغادرتي عُمان، تفرغت أكثر للكتابة الأدبية، فأصدرت أكثر من 86 كتابا.

وعن وجود مسقط في أعماله يقول: لم تكن مسقط بعيدة عن أعمالي الروائية، بل كانت حاضرة بقوة. أول رواية لي كانت «الأسوار»، أما الثانية فكانت «إمام آخر الزمان» وقد استلهمتها من أجواء مسقط القديمة. كان المشهد هناك أشبه بعالم ألف ليلة وليلة، سواء في البنايات، أو الحياة اليومية، أو حتى الملابس، مما أوحى لي بفكرة الرواية التي تناولت المعتقد الشيعي الاثنا عشري حول ظهور الإمام المنتظر. كانت لتلك البيئة خصوصية فريدة، ذكريات لا أجد لها مثيلًا في أي مكان آخر، حيث الامتزاج العميق بين الماضي العريق وملامحه الساحرة.

وحول الحديث عن الرواية العربية يقول محمد جبريل: أرى أن إبداعنا العربي الحقيقي يظهر عندما نستمده من بيئتنا وتاريخنا وتراثنا. لقد حقق الرواد والأجيال اللاحقة هذا إلى حد كبير، لكنني أخشى أن الإسراف في محاكاة الغرب قد يبعدنا عن أصالتنا وهويتنا. شخصيًّا، أجد إعجابًا متزايدًا بالواقعية السحرية التي برزت في أدب أمريكا اللاتينية، لكنها مختلفة عن رؤيتي لما أسميه بالواقعية الروحية. يفسر جبريل حديثه فيقول: الواقعية السحرية تمزج بين الواقع والخيال، بينما الواقعية الروحية ترتبط بالمعتقدات وما وراء الطبيعة، وتعتمد على يقين شعبي بأمور تبدو خرافية لكنها جزء من الوجدان العام. في مصر، على سبيل المثال، نجد صلة عميقة بين الناس وأولياء الله، حيث يخاطبونهم كأنهم أحياء، يطلبون منهم المعونة أو يعاتبونهم إن لم تتحقق رغباتهم.. هذه الظاهرة غائبة عن عُمان، لكنها جزء أصيل من الموروث الشعبي المصري.

يتحدث محمد جبريل عن الترجمة فيقول: يُقال إنها خيانة للنص الأصلي، لكنني لا أستطيع الحكم على الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى. ومع ذلك، أجد أن بعض المترجمين من اللغات الأجنبية إلى العربية يتقنون اللغتين بشكل باهر، لدرجة أن القارئ يشعر كأنه يقرأ النص بلغته الأصلية. من أبرز هؤلاء صالح علماني، الذي كان مترجما بارعا. لكن هناك ظاهرة سلبية في الترجمة، حيث تُترجم بعض الأعمال أكثر من مرة دون ضرورة، بينما تبقى أعمال أخرى ذات قيمة عالية بلا ترجمة. كان من الأفضل أن يكون هناك تنسيق عربي لضمان توزيع جهود الترجمة بشكل أكثر كفاءة، بحيث ننتقل من عمل إلى آخر بدلا من تكرار ترجمة كتاب واحد عشرين مرة، كما حدث مع رواية «العجوز والبحر» لهمنجواي. كذلك، هناك من يعيد صياغة الكتب المترجمة إلى العربية بأسلوبه ثم ينسبها إلى نفسه كأنه أعاد الترجمة من جديد، رغم أنه لا يجيد اللغة الأصلية. هذه الظاهرة تسيء لجهود المترجمين الحقيقيين، وتضيع جهود أشخاص مخلصين مثل صالح علماني.

يتحدث محمد جبريل عن نجيب محفوظ فيقول: كانت علاقتي به وثيقة، لدرجة أنني خصصت له كتابا بعنوان «نجيب محفوظ: صداقة جيلين»، حيث كنت ألتقي به يوميا لمدة ساعتين في كل المكاتب التي أنتقل إليها، وذلك قبل أن يحصل على جائزة نوبل. كما كتبت عنه كتابا آخر بعنوان «زيارة أخيرة إلى حضرة نجيب محفوظ». كان نجيب محفوظ شخصية فريدة، ليس فقط بموهبته غير العادية، بل بثقافته الموسوعية أيضا.. رغم أن كل أعماله تدور حول مصر وبيئتها، إلا أن تأثير قراءاته للأدب الأوروبي كان واضحا فيها. على سبيل المثال، تجد في روايته «اللص والكلاب» و«الطريق» أصداء من أعمال كافكا وديستويفسكي، كما أن موضوع الجريمة حاضر في معظم رواياته.

في أحد اللقاءات، عندما قيل إن «أولاد حارتنا» ليست سوى محاكاة لقصص الأنبياء، ردّ قائلا: أعطوني عملًا واحدًا لا يخلو من تأثيرات أدبية سابقة، وعندما حاول النقاد إثبات العكس، فشلوا، حتى قال أحدهم: انتصرت يا نجيب.

ويضيف: ما يميز نجيب محفوظ أيضا هو نظامه الصارم، فقد كان يخطط ليومه مسبقا بدقة مذهلة. كان يستيقظ في وقت محدد، ويعمل حتى الثالثة ظهرا، ثم يتناول غداءه، ويأخذ قيلولة، وبعدها يجلس للقراءة والكتابة حتى الثامنة مساء. إن لم يجد شيئا ليكتبه، كان يرسم أشكالا على الورق في انتظار الإلهام. ثم يجلس مع ابنتيه قبل أن ينام ليبدأ يومه التالي بالدقة نفسها. حتى في ندواته، كان ملتزما بوقت محدد؛ فكل خميس يذهب إلى مقهى عرابي في العباسية من السادسة حتى الثامنة مساء، ثم يغادر إلى «الحرافيش» في عوامة على النيل حتى الفجر، ويوم الجمعة يخصصه لعائلته.

كان نجيب محفوظ في شبابه في المركز الثاني على مستوى قسم الفلسفة، لأنه كان يرفض الدراسة يومي الخميس والجمعة. لو كان حصل على المركز الأول، لربما أصبح فيلسوفا بدلا من أديب. الفائز بالمركز الأول، توفيق الطويل، سافر إلى باريس وعاد فيلسوفا، بينما بقي نجيب محفوظ في مصر ليصبح عميد الرواية العربية.

حتى عاداته اليومية تعكس شخصيته المنضبطة. عندما كنت ألتقيه يوميا، كان النادل يحضر له فنجان القهوة عند الساعة الثانية عشرة تماما دون أن يطلبه، وحين استفسرت، قال لي النادل: لا يحتاج أن يطلب، هذه عادته منذ سنوات.

كان يكتب بالقلم الرصاص، ويمحو ويصحح حتى يرضى عن النص، ثم ينقله بالقلم الحبر السائل ليسلمه إلى المطبعة. كان يحمل معه دائما ورقة صغيرة يدوّن فيها ملاحظاته، يلتقط من الشارع التعبيرات الشعبية، والنكات، والأغاني، تماما كما فعل بلزاك في الأدب الفرنسي. لهذا نجد في «الثلاثية» و«الحرافيش» تعبيرات لم يكن بالإمكان سماعها إلا من أفواه الناس في الأسواق.

نجيب محفوظ لم يكن مجرد كاتب موهوب، بل كان منظما صارما، ومثقفا موسوعيا، ومستمعا حادّ الملاحظة، وهو ما جعله سيد الرواية العربية بلا منازع.

محمد الندابي كاتب عُماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق