مستخلص مؤلم؛ تعكس قسوة القريب، والمحيط الاجتماعي قسوة المجتمع، التي أصبحت في تصاعد، يؤدي الى السطو على الأمان الاجتماعي، ما يغري الغزاة بالسطو علينا؛ فكيف نفصل ما بين عنف في البيوت والساحات، والعنف الممارس من قبل النظم المستبدة من جهة، وعنف الاحتلال من جهة أخرى؟
خيط ناظم، يرق حينا، ويغلظ أحيانا، هو ما يربط معظم قصص المجموعة القصصية للكاتبة الفلسطينية فوز أبو سنينة التي بين أيدينا، ما يحدث سلسلة صدمات لدى المتلقي، بحيث، لا يكاد ينتهي من المجموعة، حتى تتولد لديه ردود فعل تدفعه باتجاه تحمله ما يمكن من مسؤولية تجاه الإنسان، من خلال إثارة مشاعره المتنوعة أولا، وإثارة فكره باتجاه التغيير.
جذبتنا القصص لمصداقيتها من ناحية، وأسلوبها من ناحية أخرى، عبر لغة سردية مناسبة، كانت بلاغتها بمقاربتها، لا بجماليات لغوية ثقيلة؛ حيث مثّلت اللغة الجمالية تهيئة لأجواء النص.
13 قصة من أصل 20، استطاعت كشف الشخصيات الاجتماعية نفسيا من داخلها، وبالتالي كشف المجتمع على حقيقته، ما يعني أن القصص هنا لا تقف عند الإمتاع الأدبي فقطـ، بل إلى تموضع القارئ تجاه هذا المجتمع باتجاه أن يكون له دور. والقصص بالتالي، تمثل وثيقة إنسانية، تعبّر عن معاناة البشر التي يسببها بشر آخرون، في الفضاء الواحد. ولربما، والحال كذلك، تؤشّر القصص على ما هو سلبي، وشرير، في مغامرة الاتهام بالتشاؤمية.
ثمة قسوة تضمنتها القصص، تصاعدت الى العنف، الذي ولّد عنفا مضادا، في ظل محدودية العدالة، وتهشيم الأمان.
في "رحلة شفاء"، يكون التشافي بالتربص بالمغتصب بعد إنهاء محكوميته البالغة خمس سنوات؛ فمن خلال مونولوج المرأة، نقرأ الأحداث، التي جعلت المرأة متوترة بعد تعرضها للاغتصاب، التي تنتظر خروج المغتصب من السجن، فتقوم بقتله. إنه نقد للقضاء والقوانين التي لم تنصف المغتصبةـ التي تلجأ لتنفيذ العقوبة التي تراها مناسبة للفعل.
وهي تنتقد المجتمع الذي يدين المرأة: "سنتيمتر مكشوف أو آخر منفوخ أو إيماءة ....مباحة على كل من يمرّ جانبي".
يتكرر الفعل العنيف، ورد الفعل العنيف في قصة "عشرة كاملة"، والتي تعد من أهم قصص المجموعة. في القصة وصف لبرمجة الرجل لحركة المرأة وسلوكها؛ الذي يتصرف بانه مالك الروح والجسد؛ فهي مخلوقة له، ولا ينبغي أن تنشغل بأي شيء خارج نطاقه والبيت، الذي أصبح فضاء ضيقا. بعد كل اعتداء من الزوج، كان يتلوه تقديم هدية لها (جمعتها بعلب)، لكسب الصمت والتقبل، لضمان استمرار ممارسة التملك والسيطرة على الجسد. وقد رصدت الكاتبة كل حالة عنف، وتأثيرها عليها من أثر على جسدها لونيا، كحالة الدم الأحمر بعد استنكارها ربط ممارسة الحب بالحب والمودة، والأزرق من صبغ الشعر بأزرق، والأبيض لتمشيها في الحديقة الخضراء حين ابتسم لها رجل، والأصفر لأنها زادت لون العصفر قليلا، وصولا لرصد عشرة ألوان، في سرد سحري مثير، خاصة فيما يتعلق بتقديم هدية بعد ممارسة العنف. لقد تحملت المرأة، وكأنها كما قيل، عدّت للعشرة، صابرة عليه لعله يكفّ عن عنفه، فما كان منها إلا أن دافعت عن نفسها، عبر رمزية قصّ الشعر، وبفعل عبر ضربه: "غرس القلم المدبب في يده، وصفعة يدي الأخرى المثخنة بخواتمي العشرة".
"مونولوج الجميلة"، قصة المرأة التي تتذكر حياتها قبل الإنجاب، وكيف كانت تضع زينتها من أجل الخروج مع الزوج لقضاء وقت ممتع. ثم لا نلبث أن نجد تغير الحال الى النقيض، بعد ممارسة الأمومة، والتي تصبح بها أكثر جمالا.
وتعزف قصة "فاعل خير"، على مضمون قسوة القريب، من خلال سرد درامي محزن، يظهر مفارقة عقوق الوالدين، وإهمالهما، في الوقت الذي ينتظر الأب عودة الأبناء له: "الآباء ينتظرون الأبناء مهما تأخروا"، كما تعرض مفارقة إهمال الأب، الذي لا يجد من يعطف عليه على الرصيف إلا حارس المدرسة، مقابل إظهار برّ الوالدين على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل الأبناء حين يموت، بوضع صورته مع الآية القرآنية الكريمة "ولا تقل لهما أف...". وقد اختتمت القاصة بخاتمة حزينة جدا، حين وجدوه يحتضن صورته وأطفاله الثلاثة "مختومي الابتسامة".
"في حين قدمت قصة "نيران صديقة" أثر الخلافات الزوجية على الأطفال، عن طريق تنازع الأب والأم لذراع الطفل لاصطحابه معه/معها وقت الغضب" "لماذا كنت تمسد الأيدي عليه برفق، أو عيونا تشاهد العالم من نافذتها وتتسلى أو ذراعا ولم أكن خدا ناعما يتلقى القبل، أو شعرا ناعما".
وتصل القسوة، في قصة "أسفل عمود الكهرباء" الى الموت؛ الذي كان خيار رجل كبير يتم السخرية منه فينتحر.
أما في قصة "سكر"، فهي من القصص التي أظهرت قسوة المحيط الاجتماعي ضد المرأة؛ بل والسخرية منها كما فعلت جيرانها خاصة جارتها ميسون؛ فالمرأة التي تشعر بوحدة، والتي لم تنجب، تصطحب قطا صغيرا ترعاه، فيؤنسها، لكنه يموت؛ فتدفنه، ثم عندما تحنّ إليه، تزوره في الخرابة، وهناك تكتشف وجود قطط كثيرة، تعتاد إطعامها من وقت لآخر، فيترصد لها هشام، الطامع بجسدها، فيتبها مع بائع الخبز، وهناك يغتصبها، ويلقيها فتموت، فيشيع بأنها رمت نفسها، ويجعل من بائع الخبز شاهدا وبطلا كونه سبب لها الخوف فهربت من النافذة. لكن ما يحدث بعد ذلك، هو انتشار القطط (الفانتازي) في الحيّ، حيث صارت تخيف السكان، فصاروا يخافون الخروج مساء، ما جعلهم يعتقدون بأن العمارة "مسكونة" بالجن، بسبب ممارسة الشعوذة.
لكن بائع الخبز يفضح هشام على فعلته، حين يتذكر حين شاهده "يغلق سحاب بنطلونه...".
وتمتد القسوة والعنف الاجتماعي، الى المحيط، عبر قصة "ولادة آريس"، وهي قصة تنمر الفتى سامي على الطفل اليتيم عمر: "كيف يلوكه الناس مع أمه دون رحمة".
نجحت القاصة في تصوير عمر في حالتين متضادتين: الطفل الحالم الذي يقضي وقته بالمطالعة وقراءة الكتب التي تتحدث الحضارات، والطفل الذي يتعرض لسخرية الفتيان وتنمرهم. لكن استمرار التنمر العنيف يبث داخل الطفل ثورة، بتذكره والده من جهة، وما قرأه عن البطولة في القصص، فتراه يقترب من سامي بقوة امتلكها من تذكر أبيه وقراءة الكتب قائلا له: أنا لست ابن امرأة..أنا ابن زيوس..أنا آريس"، وآريس هو إله الحرب والغضب والوحشية العمياء عند الإغريق.
مفارقة مدهشة هنا، يتخلص عمر من خوفه، في حين يصاب سامر بالخوف والارتباك.
أما قسوة المجتمع-والمنظومة الحاكمة، فظهرت في قصة "إعادة تدوير" ، من خلال مونولوج صادم يصور حياة جامع مخلفات، والذي هو "طالب ثانوية عامة في إحدى القرى المنسية" كما عرّف على نفسه. وهو لأنه سينشغل بالامتحانات فإنه يكتب رسالة يضعها تحت أبواب البيوت، ضمنها بعضا من حاجاته البسيطة جدا: "بأن تسخوا فيما تتركون خلفكم من بقايا"، و"حذاء لم يتعب من المشي". إنه من "يقوم بإعادة تدوير وتصنيع حياة بأكملها من بقاياكم".
ظهرت قسوة منظومة الحكم من خلال قصة: "حيوات مؤجلة"، حين يتعرض الفتى للاعتقال السياسي، ويتعرض للبطش.
مفارقة الفضاء الضيق للزنزانة، جعلته يوسع ذلك الفضاء، عبر الذكريات التي يذهب لفضاءاتها الرحبة الحرّة: "اتخذت صوتي الذي بدأ يخشن رفيقا".
يثبت الفتى: "صوت العصيّ لا صوت متلقي العصيّ"
الغريب في هذه القصة هو "استمرار الاعتقال"، ما يعني أن بقاء الحال يستلزم فعلا ما.
انتقال آخر جديد، فبعد "حيوات مؤجلة"، انتقلت القاصة الى قصة بعنوان: "مفلسو الأحلام". يكتشف أطفال المخيم استدامة المأساة، فيدعون الله بتعجيل الموت.
كل وخلاصه، أحمد بطموح السفر مثل حسن، فيما يكون خلاص نورا بالزواج، وإيلي بالهروب، وإياد الهجرة إلى أوروبا...
يخلقون طقسا، يرتدون أجمل الثياب، يتحلقون في دائرة، فيها أجمل ممتلكاتهم الجميلة (البسيطة الفقيرة). يطلبون الخلاص من الحياة القاسية، لكن ما يحدث هو احتراق أهاليهم، بسبب احتراق الخيم، بسبب "الديزل" الذي كان يجمعه أبو علي من خزانات المخيم. يجد الأطفال أنفسهم أيتاما بمركز إيواء، ولكن وهم في ظل يأس جديد، يظهر الأمل من جديد، من خلال ظهور حسن الذي صار "شيفا" مشهورا، أيقظ الأمل بحياة أخرى، حتى لو كانت خارج الوطن.
أما قسوة الاحتلال، في قصة "شروف مختلف"، فتتحدث بشكل مباشر عن عنف الاحتلال والمستوطنين في القدس المحتلة، من خلال مصادرة البيت. يستعيدون من خلال موجودات البيت مثل الراديو "الست وعبد الوهاب، الأغاني القومية والثورات العربية".
وتبلغ المأساة حين يخاطب أبو عبد الله زوجته: "لماذا ترتبين يا أم عبد الله؟ ألهؤلاء الأوغاد؟
تصف الكاتبة تسارع انقضاء الوقت، بالدقائق، لحين ترك البيت، ليبدأ العد بالساعات، حيث تهويده وإزالة الآثار الدالة على مالكيه الأصليين: "انتزعوا الصبارة العنيدة التي تطل من بين الحيطان"، ثم النهب والسطو على كل ما في البيت.
تختتم القاصة بالساعة 84: "تسللت خيوط السابع من أكتوبر"، كبادرة خلاص.
ولعل قصة "هبوط اضطراري"، تكشف قسوة الاحتلال، دون تسميته، من خلال هبوط طائرة فيها لاجئون فلسطينيون، دون تسميتهم، في مطار اللد، دون تسميته، حيث تلوذ اللاجئة بتراب الوطن. ومع تكرر الهبوط الاضطراري، تتكرر حالات العودة الى التراب وصولا لمنع سلطات احتلال المطار بعدم السماح للطائرات المضطرة بالهبوط.
سأعود إلى ما يتداعى من العنوان؛ فكلّ وفضاؤه، وكم يصعب حين يكون الفضاء ضيقا، واقعيا ورمزيا، والأكثر مأساوية حين يكون خلال ذلك في ظل القسوة والعنف.
هو وهي، وأنا، الصوت الإنساني، في المجتمع والحياة والعالم.
ولعل قصص فوز أبو سنينة، وهي تكشف قسوة الحياة، وتستنهض المظلوم لرد الظلم، تكشف أثر الصدمات الإنسانية على النفوس البريئة التي تكتسب قوة مضاعفة في لحظة ضمان المعتدي استسلام الضحايا.
الأسلوب:
أهم القصص المكتملة كانت: قصص "سكر" و"عشرة كاملة" و"نيران صديقة" و"إعادة تدوير" و"مفلسو الاحلام"، والتي اكتملت عناصر القص فيها، في حين تفاوتت البقية.
في حين ظهرت عدة قصص فيها نفس سردي تجريبي، بمسحة تجريدية، فيها رمزية فلسفية ووجودية، جمعت بين القصة والخاطرة، مثل قصص تسونامي"، و"سنة الحياة" التي تتحدث عن قص فروع الشجر المكسورة، و"في أشياء جميلة"، التي تتحدث عن محل التحف الذي الموسيقي فيه آلة الربابة أو الكمنجة، والذي حين يعزف عليها بعد شد أوتارها، تصحو الذكريات. كذلك قصة "بيتهوفن" عن المصور الذي فقد بصره. كذلك في قصتي "هدوء عظيم" و"احتضار". و"الملاهي"، التي تصور حلم مريض غسيل الكلى.
امتازت القصص باقتراحات نهايات القصص التي لم تكن حاسمة، بإيحاء ما، لدفع القارئ للفعل. ولعل أكثرها وضوحا قصة استمرار اعتقال الفتى ظلما في قصة "حيوات مؤجلة".
من أساليب القاصة، الدخول الى الأحداث من خلال جو النص في بدايته، بما له علاقة بسياق النص. وقد تفاوت توظيف ذلك، من حيث خدمة الأحداث والفكرة. كذلك تميزت بالقدرة على المونولوج.
ظهرت الرمزية القريبة كما في قصة "أشياء جميلة"، كما لوحظ إبداع القاصة بأنسنة الأماكن والأشياء.
"اللغة:
وفقت الكاتبة في اختيار لغتها الملائمة للسرد، فلم تثقل اللغة، ولم تسطحها في الوقت نفسه. أما ملاحظتنا عن اللغة هنا، فستتجاوزها الكاتبة مستقبلا، حين ستركز أكثر على السرد، أكثر منه على ما يوحي به رمزيا وشعريا وفلسفيا، لأن الاكتفاء بالسرد، هو ما سيقوي النصّ.
نختار بعض العبارات والكلمات، كما في القصة الخامسة، "مونولوج الجميلة، "شعرت بفمه الصغير ينفتح ويطلق سراحها بعد أن عبّ من حنانها كفايته". في القصة السادسة، أوردت وصفا فريدا "مختومين بابتسامة"، وفي الثامنة "استسقاء الموت".
جدير بالذكر أن المجموعة قد صدرت عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، 2024 ووقعت في 138صفحة.
0 تعليق