هل يُعقل أن تستسيغ مثل هذا العنوان؟ منذ الوهلة الأولى، لاح على محيّاك الشك والريبة في سلامة مدارك القلم، بالرغم من أنك سمعت وقرأت عبارات هوجاء غير عاقلة، أو جاهلةً بالمعنى الجاهلي، من قبيل: ثقافة القمع، ثقافة العنف والتطرف... موضوع طويل، فعدم معرفة المعاني الدقيقة للكلمات أصاب الذائقة اللغوية بعربية لم يعرفها تاريخ العرب.
لكن اللامعقول الثقافي المقصود، ليس هزلاً، فوراء الدعابة غير المتعمّدة، شجن وشجىً. هل أعملت فكرك في المؤسسات الثقافية ومجالات العمل المتاحة أمامها، في البلدان التي صارت، بدرجات متفاوتة ومتقاربة، على هامش العصر؟ أصبحت القضية أبعد بكثير من الإمكانات والهموم المادّية، ومدى إقبال الجمهور وتفاعله والأصداء الإعلامية، والامتداد إلى ديار الأشقاء العرب في الأمّة العربية الواحدة، ذات إسالة اللعاب الخالدة. لك أن تتحدث عن انبثاق نوع جديد من الفن المسرحي، خشباته خرائط الدول. مسرح الواقع العيني المشهود، سوى أن الكاتب والمخرج من غير بني جلدتنا. بقي أن الجنس المسرحي من طراز تراجيكوميديا لم يعرفها اليونانيون ولا شكسبير وراسين وإبسن وبريشت ولا بيكيت.
مع ذلك، ثمّة ما هو أغرب من الإرباك الذي تواجهه المؤسسات الثقافية في تلك الديار الشقيقة. هل لك أن تتصور حالة الذهول الوجودي التي يعانيها الشعراء، الروائيون، التشكيليون، السينمائيون، الموسيقيون... في تلك المضارب المضروبة المنكوبة، في عالم أعينه معصوبة، وقيمه مقلوبة، وضمائره الحيّة مغلوبة، وإرادته مسلوبة؟
ثمّة مشاهد أخرى من التراجيكوميديا، فأوّلَ مرّة في التاريخ الحديث، يواجه المثقفون العرب، ظروفاً غير مسبوقة، حتى في البلدان المستقرة أو التي تحظى باستقرار نسبيّ، وليست في عين الإعصار. إذا كانت شؤون الهوية والميراث الثقافي وقضايا الانتماء، ومعطيات التاريخ والجغرافيا، لها أهمّية فائقة، ولها انعكاسات مباشرة وحيوية على العمل الإبداعي، فكيف يكون التوازن الذهني والنفسي والروحي والتفاعلي، العقلي والعاطفي، على أرض مهتزّة ورمال متحركة، في مقدّمتها إقصاء ثمانية بلدان أو تسعة أو عشرة من الحضور الحضاري الفاعل على خريطة العالم العربي؟ حين تمسي التهديدات في هذا المستوى من المصير المجهول، لا تستطيع الشعوب أن تضمن مكانها في سفينة النجاة، لسبب بسيط، وهو أن السفن من قبل سفينة نوح، لم يحدث قط أن غرق نصف سفينة ونجا النصف الآخر.
لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: على المثقفين أن يدركوا، بعد فوات جدوى الإدراك، أن الثقافة هي الأوطان والشعوب، أو لا تكون.
0 تعليق