اقترن ميلاد مفهوم الحقّ (الطّبيعيّ ثمّ المدنيّ) بنشأة مشروعٍ اجتماعيّ- سياسيّ خاضت فيه الفلسفةُ السّياسيّة الحديثة، منذ نهاية النّصف الأوّل من القرن السّابع عشر، تحت عنوان الانتقال إلى المجتمع السّياسيّ
(الدّولة) وفْق هندسةٍ مجتمعيّة جديدة يكون المرجعُ فيها للقانون - الذي هو تعبير عن الإرادة العامّة - لا لإرادة الحاكم المطلق كما دُرِج على ذلك في أنظمة الدّول الوسيطة. نهض فلاسفةُ العقد الاجتماعي (هوبس، لوك، سپينوزا، روسو، كَنْت...) بالدّور الرّياديّ الحاسم في تأسيس المقدّمات النّظريّة الفلسفيّة لفكرةِ زمنيّةِ السّلطة التي عليها مبْنى الدّولة الحديثة ومنظومة الحقوق والحريّات فيها، ثمّ ما لبثت هذه «الدّولة النّظريّة» أن فَرضت نفسَها وسلطان نموذجها في القرن الثّامن عشر، من خلال مسلسل الثّوْرات الاجتماعيّة التي كانت أوروبا وأمريكا مسرحاً لها، بعد أنِ انتزعت مشروعيّتَها القانونيّة، سلفاً، من طريق الاعتراف بها وبسيادتها الوطنيّة في معاهدة ويستفاليا (1648). على أنّ إدراك القيمة الفكريّة والسّياسيّة التي قاد إليها ميلادُ مفهوم الحقّ (الطّبيعيّ، المدنيّ) وقْفٌ على إدراك ما كانت عليه حال السّياسة، في دول أوروبا الوسيطة، حين انتظم أمرُها لزمنٍ طويل على مقتضى نظريّةِ حقٍّ آخَر مختلف هو الحقّ الإلهيّ.
ما كان للمجتمع والرّعيّة شأنٌ بالسّلطة ومَن يتولاها، في دول العصور الوسطى الأوروبيّة، فهذه ليست من الدّنيويّات التي للنّاس دخْلٌ فيها على أيّ وجْهٍ من الوجوه، بل هي ممّا يعود أمرُه إلى الله والإرادة الإلهيّة على وجه التّحديد والحصر. السّلطة، في «نظريّة» الحقّ الإلهيّ، هي سلطةُ الله على الأرض يمنحها للملوك لكي يمارسوها باسمه ونيابةً عنه. لذلك لا تُسْتَمَدّ مشروعيّتُها من المحكومين، الذين لم يفوِّضوا حكّامَهم بتولّيها، وإنّما تُسْتَمَدّ من الله الذي شَرَع لهم الحقّ - كما يَرِد في أسفار العهد القديم - في تَقَلُّدها.
وعليه، كما أنّه ليس للنّاس حقٌّ في تفويضِ سلطةٍ (لا يملكونها أصلاً في هذه «النّظريّة» الثّيوقراطيّة) إلى غيرهم كي يتولّوا أمرَها نيابةً عنهم، كذلك لا حقّ لهم في الاحتساب على الملوك أو في خلعِهم أو في محاكمتهم أو ما شاكل، لأنّ في هذا اعتداءً شنيعاً على حقٍّ أَسمى ليس لهم هو الحقّ الإلهيّ. وهذا يعني أنّه كان على الإنسانيّة وعلى الفكر والمعرفة قطْعُ شوْطٍ طويل قبل الشّروع في الانتقال، تدريجاً، من هذا المفهوم الثّيولوجيّ للسّلطة، بما هي حقٌّ إلهيّ ممنوحٌ من علٍ، إلى مفهومٍ مدنيّ لها بما هي نِصابٌ زمنيّ لا يكون فيه مصدرُها متعالياً ومفارِقاً - كما في «نظريّة الحقّ الإلهيّ» - بل يكون مصدرُها دنيائيّاً هو الشّعب.
ليس للإنسان من حقٍّ في النّظام السّياسيّ القديم، المنحدِر من العصور الوسطى، لأنّ كينونته بوصفه إنساناً لم تكتمل بعد، بل لم تتكوّن بعد في ذلك الإبّان. لقد كان، بالأحرى، جزءاً من قطيعٍ اجتماعيّ مديدِ الكينونةِ والزّمنيّةِ في نطاق النّظام الجمعانيّ السّائد، زمنئذ، بحيث لا تُلْحَظ فيه فرديّتُه وذاتيّتُه المستقلّة، لأنّ هذيْن - ببساطة - لا يتكوّنان إلاّ في نظامٍ سياسيّ حديث لم يكن قد قام في ذلك العهد الذي سبق القرن السّابع عشر.
لذلك كان مركز النّظام القديم ذاك هو الملك في مقابل رعيّةٍ هو من يتولّى أمْرها، وهو مَن يَسُوسُها مثلما يفعل أيُّ راعٍ مع قطيعه. الحقوق الوحيدة التي كان يدور عليها التّفكير الأوروبيّ، عصرئذٍ، والتي ظلّتِ الكنيسة تحرص على ترسيخ العناية بها في عِظَات سلْكِها الإكليريكيّ هي حقوق الله، والمؤمنون عندها مدعوون إلى احترام هذه الحقوق بحسبانها واجبةَ الطّاعة عليهم.
كانتِ الثّيولوجيا، حينها، في قلب التّفكير الإنساني (الأوروبيّ تحديداً)، وكانت تتغذّى من قوّة سلطان الكنيسة الدّينيّ والثّقافيّ، لذلك ما كان في حكم الإمكان أن ينطلق مسارٌ من التّفكير جديدٌ - في مثل تلك الأحوال - يقود إلى تأسيس فكرة الكينونة الإنسانيّة وإلى التّشديد على مركزيّتها في الوجود على نحوٍ يُفضي، بالتّبِعة، إلى الانتباه إلى ما يتمتّع به هذا الإنسان من حقوقٍ والدّفاعِ عنها.
كان على البشريّة أن تنتظر ميلاد حركةٍ ثقافيّة فلسفيّة جديدة متمحورة الاهتمام على الإنسان وعلى الإنسانيِّ في الوجود الاجتماعيّ (الإنسانويّة أو النّزعة الإنسانيّة)، أسهم في إطلاقها مفكّرون أحرار ولاهوتيّون منفتحون، وكان عليها أن تنتظر نشأة فلسفةٍ عقلانيّة تشدِّد على الذّاتيّة الإنسانيّة (ديكارت) لكي يصبح في حساب الممكنات أن يخطوَ الفكر الحديث خطوةً نحو تعظيم مكانة الإنسان في الوجود. وهذا عين ما جرى حين قادت تلك التّحوّلات الفكريّة إلى تعلية مكانته في الوجود إلى حدّ صيرورته مركزاً بعد إذْ كان على قارعة التّاريخ.
بدأ هذا التّحوّل نحو تسليط الضّوء على مكانة الإنسان والذّات في الوجود مع مطالع القرن السّابع عشر. ولم يكنِ القرن هذا قد انتصف حتّى كان توماس هوبس، الفيلسوف الإنڭليزيّ، يدشّن فلسفةً للسّياسة جديدةً تَغَيّتِ التّنظيرَ لنظامٍ سياسيّ حديث يطوي أحقاب الفوضى والحروب الأهليّة، وفقط في مثل هذا النّظام الحديث تحتلّ مسألة الحقّ مكانةً معتَبَرة ويدور الكلامُ عليها بين فلاسفة السّياسة: فلاسفة العقد الاجتماعيّ. هكذا بات يمكن الحديث عن أصول فلسفيّة لفكرة حقوق الإنسان تعود إلى تلك اللّحظة من بواكير الأزمنة الحديثة.
0 تعليق