إليك هذا المقطع من رواية «القوقعة» للكاتب السوري مصطفى خليفة. بطل الرواية، كما يعرف قارئها، شاب مسيحي كان يدرس الإخراج السينمائي في فرنسا، وحين عاد إلى بلاده قُبض عليه في المطار واُودع أحد السجون ليخرج منه مجنوناً. يقول: «حفظت القرآن جيداً ولطالما رددت بشكل عفوي آيات وسوراً طويلة منه، حفظت الصلوات كلها حتى الطارئة منها: صلاة الخوف، صلاة الجنازة، صلاة التراويح، استمعت الى خلافات الجماعات المختلفة حول الأحكام الشرعية.. آلية تفكيرهم. ردود أفعالهم، طموحاتهم، آمالهم،.. لكل هذا لم أعد أركّز ذهني كثيراً عندما أنظر من خلال فتحة القوقعة».
حين يتحول الصحفي إلى شاهد عيان، فإنه يتحوّل في الوقت نفسه إلى توثيقي يكتب شريطاً طويلاً للتاريخ ولنفسه، وما على الشاعر أو الروائي أو القاص سوى العودة إلى ذلك الشريط، ليكتب عملاً أدبياً وثائقياً هو الآخر.
اقرأ ما كتبه محمد أبي سمرا في «شهادات جيل الصمت والثورة»: «يعبد الجمهور السوري فيروز وأغانيها، وتمتلك أجياله وفئاته حماسة جماعية وموحدة للأغاني الفيروزية، أقوى من حماسة الجمهور اللبناني للأغاني نفسها. لكن فئات واسعة من الجمهور اللبناني تتباين استجابتها وأشكال تلقيها لهذه الأغاني وتفاعلها معها تبعاً للأوقات ونوع الأغاني وزمنها التعبيري والدلالي» .
فعلاً، يعشق السوريون فيروز أكثر مما يعشقها اللبنانيون. والسوري حين يسمع «جارة القمر»، فإنما يسمعها كمثقف.
اقرأ ما يقوله ممدوح عدوان عن الرحابنة وفيروز: المناخ الرحباني كان مهيمناً على كل شيء. وسواء أكانت كلمات الأغنية لسعيد عقل أم لطلال حيدر، للأخوين رحباني أم لميشيل طراد.. وَسَواء أكان اللحن مأخوذاً عن سيد درويش أم مأخوذاً من أغنية أجنبية، فإن كل شيء يصبح رحبانياً بمجرد أن يلمسه هذا الثنائي العظيم.
أول قصص زكريا تامر كانت مجموعته «صهيل الجواد الأبيض»، وكل أمكنتها ومناخاتها دمشق السبعينات والستينات، حين كان شاباً، وكان فن القصة القصيرة شاباً أيضاً. هذه المجموعة القصصية هوية شاب سوري من ذلك الزمان. جواد أبيض يصهل في قبو. جوع معوي حقيقي، وجوع معنوي، وجوع للخبز والمرأة والحرية. انفعال وتوتر وانفصام. ضياع في الشارع، وضياع في الداخل البشري المحطّم.
يدخل علي كنعان الثمانين ويتجاوزها إلى الأربعين، فالعشرين. يكبر ويبتسم. شيخوخته هادئة وبطيئة. شاعر سوري ستيني عاش في قوقعة اسمها «القصيدة». ومن حسن حظه أنه لم تكن له قوقعة مصطفى خليفة.
0 تعليق