أعلم عن ثقة، أن دولاً عربية، غير قليلة، عاشت حالات توتر وعدم يقين خلال الأيام الأخيرة، تحت
ضغط تطورات، أكثرها مغلف برقائق كثيفة من التهديد والوعيد ومصادره معلنة ربما إلى حد الابتزاز واستخدام لغة إرهاب صريحة، وبعضها من صنع ملايين من سكان الأزقة والشوارع العربية استنفرهم القلق والخوف وحب أوطانهم.
أعترف أنني سمعت خلال أيام قليلة كلمات في مناسبات عديدة، كثيراً ما استبعدت من قواميس الكلام السياسي أو غابت عن الحضور في وجود صغار السن وحديثي التجربة. لن أطيل في هذه المقدمة، فأنا مطمئن، وإن كنت مثقلاً مثل كثيرين ببعض القلق وضعف اليقين والخوف على المصير مما نراه من حولنا وبين جنباتنا، مطمئن إلى أن هذا الشرق الأوسط الذي أحمل معه بعض همومه، أنجب، وسوف يستمر في إنجاب، عباقرة لكل زمان من أزمنته المتباينة ومن كل عرق من أعراقه المتعددة.
استفدت من فسحة في قلق كان متعاظماً، ومن رغبة جامحة في أن أخرج إلى أصدقاء وزملاء سابقين وحاليين وخبراء لامعين في دراسة ومتابعة وفهم ما يفكر فيه المختصون والمسؤولون، لأسأل عن بعض ما قصرت خبراتي عن فهم كل أو بعض ما يدور في أذهانهم، أسأل عن حصيلة ما سمعوا أو خلاصة ما توصلوا إليه بعد تمحيص وتعب.
خلصت من الردود على استفساراتي وتحفيزاتي بالآتي:
*أولاً: سألت سؤالاً له علاقة بالتطورات الإيجابية الأخيرة المتعلقة بنظام الحكم في لبنان. أغلب الردود جاءت مرحبة، وإن اعترفت هذه الأغلبية أنه ما كان يحدث هذا الاختراق لسنوات من الميوعة وتدهور الحال في لبنان لولا تدخل قوي ومنسق من الخارج، شاركت في تنسيقه وإخراجه وتنفيذه دول كبرى عديدة ودول عربية تتمتع بنفوذ في لبنان والمنطقة. إلى هنا والردود لا تضيف جديداً ولا ظنوناً أو شكوكاً. رد واحد أثار في نفسي موجة عارمة من التوتر حين أضاف كلمات عديدة، من بينها ما معناه «لا يجوز أن نغفل عن وجود رابط غير واضح المعالم وربما غير مؤكد بين الجهد المشترك لإعادة الاستقرار في لبنان وبين الضغط الذي فُرض على رئيس محكمة العدل الدولية ليغادر منصبه في لحظة حرجة جداً في تاريخ المحكمة وانشغالها بدراسة ملف قضية الإبادة المتهمة فيها إسرائيل. لا شك أن ضغطاً أمريكياً أو غربياً هائلاً فَرض وضعاً استثنائياً تسبب في الإبعاد المتعمد لرئيس المحكمة من دوره وقضيته، فهذا القاضي تحديداً ما كان ليغادر من تلقاء نفسه لأي ظرف أو سبب. هل بينكم من لا يزال يحلم بحكم عادل يصدر عن المنظمة في يونيو القادم؟».
ثانياً: استنكرت كافة الردود الدعوة الخبيثة والمتكررة منذ أيام النكبة من جانب دول الغرب الموجهة للدول العربية لاستقبال المهاجرين الفلسطينيين. ذهبت ردود إلى سرد معلومات تؤكد أن الضغوط على العرب في هذا الشأن تعود إلى ما قبل قيام إسرائيل ونشوب الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، وجاء في رد من الردود أن مشروعاً أحيل وقتها إلى مصر ودول أخرى يقضي بطلب الموافقة على الانضمام إلى صندوق كالذي طرحته أمريكا لإنعاش أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وأُطلق عليه مشروع مارشال، بشرط أن توافق الدول العربية وممثلو الفلسطينيين على تهجير الشعب الفلسطيني إلى مواقع في دول عربية، منها مصر والأردن، حددها المشروع. رفضته الدول العربية وقتها وترفضه الآن. وفي كل مرة يتقرر تأجيل تنفيذه في انتظار ظروف أفضل. يسود الظن الآن بأن الظروف الأفضل تحققت، خاصة وقد صار المتحكم في أمريكا مجموعة مقاولي إنشاءات ومغامري استثمارات في مشروعات ترفيه وفنادق للقمار، وصارت غزة ركاماً، والإبادة فيها وفي بقية فلسطين لا تتوقف.
ثالثاً: تقول الردود إن أكثر أصحابها فوجئوا بالمقاومة تخرج من جديد. تخرج هذه المرة من تحت الركام وفي شكل شعب هادر يتحرك كله في وقت واحد، يرفض أوامر الاحتلال العسكري والتهديد بالإبادة. حَرَقَ خيامه، فلن يعود إليها، فركام بيوته أفضل لسكنه وسكن أولاده. منظر غريب وفريد، منظر أمة تُبعث من جديد لترد على حملة التهجير وعلى أصوات خائبة صادرة من قنوات تلفزيونية هشة، منظر أمة تُبعث من جديد لتحيي المقاومة، ليس فقط في فلسطين ولكن في عروق شعوب كثيرة. تكاد الردود تُجمع على أنه لن يقوم هنا شرق أوسط جديد على ذوق ومزاج إسرائيل وأمريكا.
رابعاً: تسود في الردود نبرة شك كبير في قدرة ترامب على الاستمرار في أدائه المسرحي وعلى تحقيق أهدافه الشعبوية. أمريكا بعد سنوات من الانحدار المتواصل باعترافه واعترافات غيره لن تتحمل طويلاً مغامرات الرئيس ترامب ونزعاته السلطوية وأساليبه «التحتية» خلقاً وأفعالاً. استطاع الرجل أن يثير الغضب ويحشد التوتر في عالم منهك ومتعب نتيجة سنوات من التعامل في نظام دولي تعمه الفوضى ويفتقر إلى مؤسسات دوليه فاعلة. أتى الرئيس ترامب ليؤكد نزعته المعادية للتنظيم الدولي في كل أشكاله. لا منظمة صحة عالمية، ولا أونروا، ولا مؤتمرات مناخ، ولا منظمة تجارة عالمية، بل حروب تجارية عالمية، وحرائق وموجات جفاف وفيضانات، وعودة صريحة للاستعمار بكل أساليبه العتيقة والوحشية.
..أخشى، كما عبَّر الكثيرون، أن نكون على أبواب عالم مجنون مجنون مجنون.
0 تعليق