هل لك أن تستحضر أغنية «يا جارة الوادي»؟ سنسافر، لا إلى زحلة اللبنانيّة، وهي جارة الوادي، وإنما إلى تركيا ومنغوليا والصين. تذكّر الجملة الموسيقيّة، التي تلي مباشرةً عجُز البيت الأوّل: «ما يشبه الأحلام من ذكراك»، تلك تنتهي بالعودة إلى درجة الارتكاز. وهو أسلوب إيقاعي يُعدّ من سمات أغاني العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. الطابع نفسه يغلب على تراث الأغنية التركية، وقد انتقل إلى مصر مع العثمانيين.
في حوار للقلم بالفرنسيّة مع الذكاء الاصطناعي الصيني: «كوين 5. 2 ماكس»، قال للنبوغ التنيني: لقد لاحظتُ أن الموسيقى الصينية التراثية توجد في بعض مقاماتها ثلاثة أرباع التون (ربع التون خطأ شائع)، فهي مثل بعض المقامات العربية والتركية والإيرانية، مع تكرار عودة الجمل وإيقاعاتها إلى درجة الركوز في المقام، فما رأيك؟
أجاب في ألف وثمانمئة كلمة. الخلاصة: العلاقات الثقافية الصينية المغولية قديمة. في الأسرة الإمبراطورية «يوان»، في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، في عهد قبلاي خان، كانت الصين تحت الهيمنة المغولية، ما جعل عناصر موسيقية مغولية تدخل البلاط الصيني. كان التأثير متبادلاً في المقامات والآلات. مع الفوارق في المضامين. الأغاني المغولية يغلب عليها الطابع الإنشادي الملحمي الأسطوري: «الخيل والليل والبيداء والسيف والرمح»، بينما الأغاني الصينية تصوّر الجبال والأنهار والفصول.
يوضح: نقل الترك المغول ذلك المزيج عبر طريق الحرير إلى تركيا، وكان التلاقح الثقافي الموسيقي في الاتجاهين، فمن الشرق الأوسط إلى منغوليا والصين. لذلك نجد في الموسيقى الصينيّة التراثية ما يعادل مقامي الراست (مثل: ملا الكاسات. بكتب اسمك يا بلادي)، والحسيني (مثل: بالذي أسكر من عذب اللمى. نورا نورا).
يبقى أن التمازجات في الموسيقى المقارنة، لا تقف عند تلك الحدود، فالترك المغول عندما زحفوا من الشرق الأقصى إلى آسيا الوسطى والشرق الأوسط، قاطعين بلاد طريق الحرير، التي يسميها صاحب «معجم البلدان» ياقوت الحموي «بلاد الترك»، واستقروا في تركيا الحالية، كانت إسطنبول تسمى بيزنطة، وقبلها القسطنطينية. حين نصغي إلى تراث مجالس السماع لجلال الدين الرومي، نجد في طيّاته بصمات الإنشاد البيزنطي، وآثار الموسيقى اليونانية، وكل أسماء المقامات الإيرانية، فإذا عدنا من جولاتنا، وأسلمنا السمع والفؤاد لبدائع العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي، أعادتنا تلك العودة المتكررة إلى درجة ركوز المقام، إلى القاهرة، إسطنبول، أولان باتور، بكين.
لزوم ما يلزم: النتيجة الدعابية: إذا قضى ضارب إيقاع ليلةً في قرية لم تدخلها موسيقى غريبة قط، رأيت الناس في الغداة يردّدون إيقاعاته.
[email protected]
0 تعليق