سوريا.. وعمقها العربي - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

من الأمور الملحّة لسوريا الجديدة أن تجد من يقف إلى جانبها، من منطق استراتيجي محض، منطق يجمع في طبقاته وتركيباته حسابات المستقبل لكلّ الشرق الأوسط، وخصوصاً العمق العربي، الذي تشكّل دول الخليج ومعها مصر عصبه الرئيس، فهذا العمق هو عمق متبادل بين سوريا وشقيقاتها العربيات، وهو أساس مهم في بناء منظومة الأمن والاستقرار التي تكفل توازن المصالح في عموم المنطقة.
ذهب نظام بشار الأسد إلى ما هو أبعد من التحالف الاستراتيجي مع إيران، إلى ما يمكن وصفه بالتبعية، في تحوّل كبير عن سياسات نظام حافظ الأسد، التي كانت ترمي إلى إحداث توازن في المصالح الخارجية، لا تذهب إلى حدّ التبعية وقد كلّف تحول نظام بشار الأسد إلى التبعية المتدرجة لإيران، نشوء فجوة كبيرة مع دول عربية عدة، كانت حريصة على الدوام على التوازن في العلاقات الخارجية، خصوصاً بالنسبة لبلد مهم مثل سوريا.
طويت الآن تلك الصفحة، لكن ما زال القادم مجهولاً، فسوريا تمرّ بمرحلة انتقالية، لا تبدو الآن واضحة المعالم، لا بالنسبة لشعبها ولا بالنسبة لدول الإقليم والعالم، فعلى الرغم من التصريحات التي تطلقها القيادة الجديدة حول العلاقات مع دول الجوار أو الإقليم، لكن يخشى أن تكون محاولة الإمساك بكلّ شيء مقدمة لضياع كلّ شيء، خصوصاً في لحظة تعاد فيها هندسة خارطة المنطقة وتحالفاتها، وتستيقظ فيها مخاوف عديدة.
مضت دول الخليج العربي، منذ عقود، نحو حالة استقرار داخلي، مع إجراء تحولات تنموية في المجالات كافّة، خصوصاً الفضاء الاجتماعي، الذي ينحو إلى توازن بين ثقافة المجتمع وبين الحداثة، تماشياً مع روح العصر وما يفرضه من تحدّيات وقد كانت دول الخليج عموماً واضحة في موقفها تجاه صعود الراديكالية الإسلاموية، لكون هذه الراديكالية بنيوياً وتاريخياً قائمة على تجاوز الحدود، وعدم الاعتراف بها، ومشغولة بتصدير أفكارها ونموذجها، من دون حساب لأهمية الدولة الوطنية، أو للتطورات السياسية والاقتصادية والعولمية، التي لم يعد بالإمكان تجاهلها، بل إن تجاهلها يعني الانتماء إلى الماضي وعدم فهم آليات الولوج إلى المستقبل.
من الطبيعي في ضوء الأوضاع الجديدة في سوريا أن يقيّم المجتمع الدولي، بما فيه العمق العربي، هذه الأوضاع خطوة بخطوة، خصوصاً لجهة النظام السياسي الذي سينتج عن موازين القوى المحلية وتكمن الإشكالية الراهنة أنه يستحيل حتى اللحظة توقّع ماهية وشكل هذا النموذج السياسي، فلم تفصح القيادة الجديدة عن أي تصوّر خاص بها عن نموذج الحكم السياسي وهل سيكون من ناحية القانون الدولي تشاركياً، كما نصّ القرار الأممي 2254 والذي يدعو صراحة إلى «إنشاء حكومة تشاركية غير طائفية»، بل إن القيادة الجديدة، صرّحت بأن «القرار الأممي لم يعد صالحاً، وتجاوزته الظروف الجديدة».
القسم الأكبر من النخب السورية، السياسية والاقتصادية، يدرك أن خروج سوريا من أوضاعها الكارثية، مرتبط إلى حدّ كبير بمدى وقوف دول الخليج ومصر مع سوريا سياسياً واقتصادياً وتنموياً، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما مدى إمكانية تأثير هذه النخبة في عملية إنتاج النظام السياسي الجديد؟
ميزة هذه النخبة، ذات العمق العربي، أنها نخبة حداثية، عقلانية، ولديها تصوّر واضح عن ماهية وشكل نظام الحكم السياسي الذي يمكن أن يكفل تحوّل التنوع السوري من كونه مشكلة إلى رافعة لنمو البلاد، كما أن إدراكها لضرورة بناء نموذج يقوم على التعددية السياسية، محدّد رئيس في وعيها لمخاطر الاستفراد بالحكم وإعادة بناء نموذج راديكالي استبدادي ويبدو ضرورياً ومطلوباً من هذه النخب أن تعيد وبشكل سريع تنظيم الفضاء الاجتماعي السياسي، لأنها العملية الأكثر ضماناً لعدم عودة الاستبداد بشكل جديد، لكن الميزة الأهم ربما في وعي النخبة الحداثية السورية وفي سياق الحديث عن العمق العربي، هو أنها ليست نخبة تقليدية في وعيها للمسألة العربية، بل كانت على الدوام على تضاد مع المزايدات القومية التي تقفز عن المصالح العميقة للدول الوطنية في الفضاء العربي، تلك المزايدات التي أرهقت العلاقات العربية البينية واستنزفت الكثير من الوقت والجهد والمال ولم تنتج سوى حالة خراب داخلي، كانت الشعوب التي حكمتها أنظمة المزايدات القومية أول من دفع ثمنها، وفي مقدّمتهم الشعب السوري.
إن عودة سوريا إلى علاقة تبادلية وتشاركية مع عمقها العربي مرهونة بالمسار السياسي وبشكل مباشر باستقرار نظام سياسي على أسس حديثة وهو استقرار غير ممكن من غير مشاركة النخب السياسية والاقتصادية الحديثة في بناء النظام المنشود وهذا المسار بين الداخل السوري وبين العمق العربي يحتاج إلى بناء آليات تفاعلية، تقوم على فهم ضرورات خروج سوريا من أوضاعها الكارثية وفهم ضرورات التوازن في الإقليم، فاستقرار ونمو سوريا على أسس حديثة ضرورة من ضرورات بناء منظومة أمن واستقرار في المنطقة، كمقدمة لإعادة توجيه الإمكانات للتعامل المنهجي مع تحدّيات المستقبل غير السياسية، من أمن واقتصاد وتكنولوجيا وتطور المنظومات العلمية والبحثية، وإنتاج بنى مؤسساتية تدعم استقرار الشعوب ورفاهية أبنائها.

[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق