عندما انهار الاتحاد السوفييتي السابق، انهارت معه منظومة الدول الشيوعية مطلع التسعينيات من القرن الماضي، هذا الانهيار لم يكن سوى انهيار للنظام العالمي القائم على تعدد القوى والذي خلق توازناً بين معسكرين كبيرين، فانفردت قوة واحدة، وسيطر معسكر واحد يفرض قيمه وسياساته.
إن سيطرة المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة أعطى زخماً لمفهوم العولمة الذي تم الترويج له كثيراً آنذاك، مترافقاً مع ظهور منظمة التجارة الحرة التي تتولى فتح الأسواق، ومراقبة التعريفات الجمركية بهدف تسهيل دخول السلع والخدمات وتحقيق نمو عالمي واسع. وقد استفادت بعض الدول النامية من ذلك الانفتاح الاقتصادي والتجاري الكبير وعلى رأس تلك الدول الصين، التي راحت تواصل نموها حتى تمكنت من الانتقال من نطاق الدولة الزراعية إلى الدولة الصناعية المتطورة.
وكانت الولايات المتحدة، ورغم حسمها صراع الحرب الباردة، تعاني تراجعاً اقتصادياً كبيراً نتج عنه كساد اقتصادي عام 2008 وقد تدخلت آنذاك دول مجموعة العشرين فأنقذت الاقتصاد الأمريكي والعالمي من كارثة كبيرة ولم يتعافَ الاقتصاد الأمريكي بشكل كامل، بل ظلت أحواله تزداد سوءاً، وعندما وصل ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة مجدداً كانت ديون بلاده قد بلغت ستة وثلاثين تريليون دولار، وكان الاقتصاد يخسر تريليون دولار، كل مئة يوم. وأعلن الرئيس ترامب عن خطة لضبط الإنفاق ومعالجة الخلل، فعين مساعده «إيلون ماسك» رئيساً لمكتب تحسين كفاءة الحكومة الأمريكية، وأطلق يده في التفتيش في مدفوعات الخزانة الأمريكية، والجهات التي تصل إليها تلك الأموال المدفوعة، كما أعلن الرئيس ترامب حرباً تجارية غير مسبوقة، بدأها أولاً بفرض رسوم بقيمة «25%» على الواردات من كندا والمكسيك، قبل أن يتراجع عن القرار، و10% إضافية على الواردات القادمة من الصين. ووقع أوامر تنفيذية بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع واردات الصلب والألومنيوم إلى الولايات المتحدة من كافة الدول بلا استثناء، وتدخل هذه الرسوم الجديدة حيز التنفيذ مطلع شهر مارس(آذار).
كما أشار ترامب إلى أنه يدرس فرض رسوم جمركية على السيارات ورقائق أشباه الموصلات والأدوية. وتحصل الولايات المتحدة على معظم الصلب من كندا والبرازيل والمكسيك، ومن ثم كوريا الجنوبية وفيتنام. وكل هذه الدول سوف تعاني جراء تلك التعريفات المرتفعة، أما الصين فسوف تكون أقل الدول تضرراً، لأن الولايات المتحدة لديها بالفعل رسوم جمركية عقابية على الصلب الصيني. وقد أعلنت الصين إجراءات انتقامية على صادرات أمريكية بقيمة 21 مليار دولار بمعدلات 10 و15%، غير أن تلك الرسوم العالية التي فرضها ترامب على الشركات الخارجية، سوف تضر أيضاً بالاقتصاد الأمريكي، ذلك أن إجراءات الحماية للشركات المحلية سوف تدفع تلك الشركات لفرض أسعار عالية تراها مناسبة، وذلك بسبب انعدام المنافسة من الشركات من الدول الأخرى وهذا سوف يضر بالاقتصاد الأمريكي ويخلق حالة من الاحتكار.
وربما يدرك ترامب هذا الأمر، لكنه يسعى إلى إعادة إحياء الصناعة الأمريكية كخطوة مهمة من أجل إعادة تحقيق وجود الصادرات الأمريكية في السوق الدولية. ورغم أن الولايات المتحدة لم تعد دولة صناعية كما كانت في السابق، لكنها لا تزال تستهلك عشرات الملايين من الأطنان من الصلب والألمنيوم سنوياً. ويُعد الصلب مكوناً رئيسياً في كل شيء من السلع الاستهلاكية مثل: السيارات والأجهزة إلى مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق، مثل: المباني ومنصات النفط وخطوط الأنابيب والجسور والطرق. كما أن الألمنيوم هو أحد المكونات الرئيسية للسلع مثل: علب الطعام والمشروبات والسيارات والطائرات التجارية، فضلاً عن البنية الأساسية الرئيسية مثل: خطوط الكهرباء عالية الطاقة. وقد تؤدي التعريفات الجمركية إلى زيادة تكلفة إنتاج العديد من هذه العناصر، إن لم يكن كلها بسبب زيادة تكلفة الصلب المستورد والمحلي، وقد يرفع مصنعو الألمنيوم سعر منتجاتهم بسبب انخفاض المنافسة من الواردات منخفضة السعر.
وقد أبدى ترامب أيضاً استياءه من الرسوم الجمركية على السيارات الأوروبية بنسبة 10% مقابل الرسوم الجمركية الأمريكية بنسبة 2.5%. وهذا يعني أنه يدرس فرض رسوم مماثلة مما سيلحق باقتصاد بعض دول أوروبا، وخاصة ألمانيا أفدح الخسائر. وكان المستشار الألماني أولاف شولتس قد أعلن عن إجراءات مضادة من جانب الاتحاد الأوروبي رداً على الرسوم الجمركية الأمريكية. وقال شولتس في الجلسة الأخيرة للبرلمان الاتحادي «بوندستاج» خلال هذه الفترة التشريعية: «إذا لم تترك لنا الولايات المتحدة أي خيار آخر، فإن الاتحاد الأوروبي سوف يرد على ذلك بصورة موحدة»، مضيفاً: «إن الاتحاد الأوروبي لديه القوة اللازمة للقيام بذلك».
لا شك أن الحرب التجارية التي أشعلها ترامب في وجه دول العالم، ولا سيما أقرب الحلفاء إلى الولايات المتحدة، سوف تؤدي إلى إحداث تغييرات كبيرة في مسار السياسات الدولية وقد تظهر خلافات كبيرة بين الولايات المتحدة وشركائها الدوليين وقد تنفصم عرى بعض الكتل والتجمعات مثل: حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وقد تحدث متغيرات أخرى لم تكن يوماً في الحسبان، فالوقت اليوم هو للصراعات على الموارد التي باتت تتجه نحو الندرة على الأرض.
[email protected]
0 تعليق