غزة ونظرية دورة الحروب - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. ناجي صادق شراب
الحرب الحالية على غزة بكل أبعادها ومتغيراتها الداخلية والإقليمية والدولية تجسّد كل النظريات التي كتبت عن الحرب، وهي ليست الحرب الأولى، فقد سبقتها خمس حروب منذ عام 2008، وهو ما يعني أن هذا الجزء الأصغر في العالم والأكثر كثافة سكانياً، شهد كل ثلاثة أعوام، حروباً غير متكافئة بين إسرائيل كدولة قوة ومدعومة من الدولة الأكبر في العالم، الولايات المتحدة، وبين مقاومة تهدف إلى رفع الحصار وإنهاء الاحتلال.
الحروب السابقة لم تحقق أهدافها السياسية، والحرب الحالية ورغم دخولها العام الثاني أيضاً لم تحقق أهدافها السياسية، وبلغة الحرب فهي حروب فاشلة هدفها فقط التدمير والإبادة.
خطورة الحرب الحالية أنها حوّلت غزة إلى منطقة غير صالحة للحياة، وهذا هدف إسرائيل من الحرب كما يبدو من حجم التدمير والإبادة، مما يحوّل غزة إلى بيئة طاردة لأبنائها. فهي من قبل الحرب تعاني من الفقر والبطالة التي بلغت نسبتهما أكثر من خمسين في المئة، وتعاني من الحصار الشامل من خلال تحكم إسرائيل في كل منافذ القطاع، وتقدّم غزة نموذجاً صارخاً لسيادة منطق القوة وعدم الثقة السياسية وتراجع منظومة الأخلاق والقيم الديمقراطية والإنسانية وتحولها لبيئة غير قابلة للحياة. والهدف الآخر لإسرائيل أنها بتدمير غزة تهدف إلى غلق ملف القضية الفلسطينية بتحويلها لمجرد قضية إنسانية لأناس يبحثون عن الطعام والشراب.
لقد باتت غزة من خلال الحرب عليها الآن تشكّل وتقدّم نموذجاً لكل النظريات المفسرة للعلاقات الدولية وتحولات القوة والصراعات والتحالفات الدولية واتساع نطاق الحروب، وتفتح المجال للحرب الإقليمية وحتى الكونية، والمثال واضح على اتساع الحرب لتشمل لبنان وإيران، وسيادة نظرية الأمن والبقاء، والدولة القومية التي تعلو على نظريات السلام والشرعية الدولية لتفسح المجال أمام القوة، وتبرير الحرب تحت غطاء من الحق في الدفاع عن النفس، أو ما يمكن تسميته من وجهة نظر أنصار الحرب «الحرب العادلة».
لقد كشفت هذه الحرب غير المتكافئة وغير العادلة كل التناقضات الدولية، وضعف المنظمة الدولية من خلال هيمنة «الفيتو» الذي تمارسه الولايات المتحدة في مجلس الأمن، وضعف الشرعية الدولية وافتقارها للقوة. كما تقدّم لنا تفسيراً في نظريات صعود القوى الإقليمية وسعيها لامتلاك القوة مثل إيران، ما يفتح الأبواب أمام الحروب الإقليمية الواسعة والشاملة التي يمكن أن تقود إلى الحرب الكونية. وتقدّم أيضاً تفسيراً لزيادة دور الفواعل من غير الدول مثل «حماس» و»حزب الله».
وما يجري في غزة اليوم يختزل القضية الفلسطينية، كما تقدّم غزة التفسير التاريخي لتراجع القضية الفلسطينية في سلم الأولويات والأجندات العربية والإقليمية والدولية، وذلك لغلبة المشاكل والتحديات التي تواجه دول المنطقة والنظام العربي كله.
والأهم أيضاً أن غزة بحروبها المتتالية تقدّم لنا إشكالية العلاقة بين نظرية التفاوض والسلام ونظرية المقاومة كوسيلة لتحرير فلسطين وإنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية، ومن قبل قدّمت لنا نظرية الانقسام السياسي الفلسطيني بين حركة فتح كحركة علمانية وحماس كحركة دينية مرجعيتها «الإخوان المسلمين»، وإشكالية العلاقة بين المشروع القومي والمشروع الإسلامي.
وغزة برغم صغر مساحتها وكثافة سكانها الذين يزيدون على مليوني نسمة، ومع هذه الحرب قتل أكثر من خمسين ألفاً وأكثر من مئة ألف فقدوا القدرة على الحياة، وتمّ تهجير أكثر من مئتي ألف إنسان، وما زالت الأرقام في صعود. فهي تقدم ركيزتي معادلة الصراع والحرب والسلام بين إسرائيل والمقاومة. والعلاقة هنا تقوم على النفي والرفض وعدم القبول. وتقوم على غلبة خيار الحرب، لأن كل طرف يسعى للتخلص من الطرف الآخر وهو خيار مستحيل، ما يعني استمرار نظرية الصراع والحرب إذا لم يتم قيام الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، حتى يتم نزع مبررات الحرب والمقاومة.
المقاومة تتحدث عن نهاية إسرائيل والتحرر الكامل، وإسرائيل تتحدث اليوم عن نزع كامل لسلاح المقاومة، وتحولها لمجرد هيكل تنظيمي بلا مضمون، وترفض الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة. وتثير غزة أيضاً نظرية التمثيل والشرعية الفلسطينية، وهل ما زالت منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. هذا وفي غزة تلتقي كل القوى الإقليمية والدولية، وتعكس الصراع بين شرعية القوة وقوة الشرعية.
لم تعد غزة صالحة للحياة بالمعنى الحرفي، وحسب شهادات المنظمات الدولية فإن الوضع فيها صار كارثياً، وقد تحوّلت إلى مقبرة بعدما تم تدميرها وقتل كل أشكال الحياة فيها، وقد تحتاج إلى مليارات الدولارات وعشرات السنوات لإعادة بنائها في حال توقفت المعارك، حيث تمّ تدمير أكثر من 80 في المئة من منازلها وكل بنيتها التحتية.
لكن، أيّ غزة جديدة وأيّ إنسان جديد فيها؟ ويبقى أنه ليس من المقبول أن يكون قدَر غزة استمرار الحرب والحصار. وفي كل مرة نتحدث عن الإعمار فهذه معادلة غير صحيحة، لأنه لا إعمار مع الحرب والحصار، ومن شأن هذا أن يدفع أهل غزة للبحث عن ملاذات آمنة.
الحرب ليست هدفاً ولا غاية في حد ذاتها، والخيار الوحيد هو كيف يعاد بناء غزة المدنية التي تركز على نظريات التنمية المستدامة؟ وكيف تصبح جزءاً من شرعيتها الفلسطينية الكاملة؟
[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق