ضرورة التعدد - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يحيى زكي
يقدم المستشرق الألماني توماس باور في كتابه «ثقافة الالتباس» رؤية جديدة لتاريخ الإسلام، تقوم على إبراز التعدد، فالدين الإسلامي بمذاهبه الفقهية واللاهوتية وتفسيرات القرآن تميزت بتعدد لم تعرفه ثقافة أخرى، تعدد اتسع لكل الآراء ولمختلف وجهات النظر، لم يعرف الإسلام وجهة النظر الأحادية التي تلغي الآخر أو ترفض التعايش معه أو تعمل على إقصائه.
وإذا كان باور يقصر دراسته على اللغة وعلوم الدين، حيث شهدنا مدارس واجتهادات لا نهاية لها، فإن قارئ تاريخ الحضارة العربية الإسلامية بإمكانه أن يلمح هذا التعدد في كل مفاصل تلك الحضارة، تلك التي امتدت من الصين إلى إسبانيا وضمت مئات العرقيات والإثنيات واللغات واللهجات والأديان المختلفة عن الإسلام، والتي عرفت التعايش السلمي. بالطبع كانت هناك فترات من التشدد، ولكن لم يكن هناك حروب إبادة للآخر أو طرد للأقليات كما شهدنا في حضارات أخرى، وحتى إذا تأملنا في حقبة حكم المماليك تلك المتهمة دائماً بأنها كانت بداية نهاية ذروة حضارتنا فسنلاحظ أيضاً تعدداً مدهشاً بين اللغات والعرقيات والأديان. هذا التعدد لا يتوقف عند هذا وحسب، ولكنك تلاحظه حتى في نمط المعمار واختلافه في مدن وحواضر العالم الإسلامي، وهناك تنوع المناطق المناخية التي دفعت ابن خلدون إلى الكتابة عن تأثير المناخ على البشر.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد إلى معاجم اللغة العربية والتي تضخمت بفعل تلاقحها مع لهجات ولغات هنا وهناك، أي أننا أمام حالة حضارية وجغرافية وتاريخية قلبها وأساسها التعدد، وهو ما يتناقض تماماً مع بعض الجماعات التي تريد أن تفرض وجهة نظر واحدة في الدين والتاريخ والحياة نفسها.
من جانب آخر لم تعرف الحضارة العربية الإسلامية أيضاً تلك الثنائيات التي استوردناها من القرون الوسطى الأوروبية وحقبة التنوير، لقد تأسس المشروع الأوروبي الحديث أو عصر النهضة كما يقال على الصدام بين ثنائيات، تصارعت مع بعضها بعضاً: القديم- الحديث، الدين- الدولة، العلم – الكنيسة.. الخ، وكان لابد لطرف أن ينتصر على طرف آخر بعد حروب طاحنة، وهي الثنائيات نفسها التي وجد أباء النهضة العربية أنفسهم وقد تورطوا فيها بفعل رياح الحداثة التي صاحبت الاستعمار خلال القرن التاسع عشر.
والملاحظ أن تلك الثنائيات التي دار حولها المثقفون العرب: الأنا- الأخر، التراث- العصر.. كانت في الأغلب ثنائيات فكرية لم يكن لها من خلفية اجتماعية أو قوى واسعة تؤمن بها مثل الحالة الغربية، حيث ظل المثقف يحلل ثنائياته بينما عاش الإنسان العربي التعدد كما ورثه من أسلافه باستثناء بعض المتشددين والمتطرفين الذين خرجوا علينا بأقوال قطعية ونهائية حول تاريخنا وديننا.
يعنون باور كتابه السابق الإشارة إليه بعنوان فرعي آخر ب«نحو تاريخ آخر للإسلام»، وهو عنوان دال نحتاج إليه في مرحلتنا الراهنة لنتجاوز الإشكاليتين معاً، إشكالية ثنائية ثقافية وصلت إلى طريق مسدود، وإشكالية فهم ضيق وقاصر لروح الإسلام، فموضعنا الجغرافي وتحولاتنا التاريخية وديننا كلها مفاصل جوهرية تقول نتيجة واحدة: وهي أن الحياة تتسع للجميع.
[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق