من يمسح دموع الحبر؟ - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. نسيم الخوري
ما هذا؟ هو السؤال الذي يُردده صغيرك أو حفيدك مرتجفاً باكياً يردده أطفال لبنان تحت الردم وفي الأبنية والضواحي المهدّمة أو فوق الأدراج والأقبية والخيم والساحات والشوارع وفي المدارس.
وُلدت في قرية الكفير في ال1948 قبالة جبل الشيخ أو حرمون الذي يعلو 2294م عن سطح البحر كما حفظت أسأل: ما هذا؟ كان أبي ينهرني طفلاً عند حلول الظلام وبصوتٍ عالٍ يسكنه الخوف بأن أسدل الستائر العتيقة فوق نوافذ منزلنا المعلّقة بقضبانٍ من الحديد. حفظت المهمة المُقدّسة أفضل من استظهارات القصائد لكوني وُلدت هناك مع مأساة فلسطين. وتطوّرت المهمة بدهن الزجاج باللون الأزرق حجباً للضوء. هكذا نشأت في مناخ يلفّه الخوف ألوذ بشروق الشمس صباحاً خلف جبل الشيخ وأتسلّح بأخبار جدّنا فارس الخوري الذي تزوّج من فلسطينية وكان الحقوقي البارز مشاركاً في تأسيس الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية والمنتديات الدولية ومناضلاً مع ممثّلي دول العرب الأوائل.
نجحت في الشهادة الابتدائية وكنت أحلم بقمّة دولية يجتمع فيها من هم مثل جدي من العالم في «إفرست» القمّة التي جذبني إليها أستاذ الجغرافيا بكونها أعلى قمّة في العالم تتجاوز حرمون يجتمع فيها أصدقاء جدّنا تحت مراقبة خالق هذا الكون وحكمته، فيعمّ السلام والاعتذار من الضحايا والمشوهين والمهجّرين والمُغادرين بيوتهم وأوطانهم بسبب الحروب وتزخر بهم كتب التاريخ إذ قالت بدوية في المجال: «إن كنت في غير وطنك فلا تنس نصيبك من الذل»، قول لطالما خططّته وألصقته فوق رأسي.
ماتت والدتي حالمةً بزيارة كنيسة المهد بالقدس وحلمت يافعاً بمغادرة قريتي «جورة السنديان» كما وصفتها عرّابتنا الأديبة اللبنانية إميلي نصرالله نحو دول العالم كنت أحدق فيها صغيراً مرسومة تدور بإصبعك فوق كرةٍ مزخرفة من تنك تحتل طاولة مدير المدرسة لكأنها الرأس البشري الفارغ حيال معضلة التاريخ.
ألملم هذه الصور في لبنان اليوم حالماً بإعادة الإعمار النفسي والجسدي والعمراني للأطفال المبعثرين عبر لبنان سائلاً: ما مستقبل لبنان وفلسطين والعرب والعالم بعد هذا التاريخ المشبع بالدماء عبر 8 قرون؟
بلغت الحربان العالميتان قمم التورّط والإيغال في القتل والتهديم وشقع الأحزان وفشلت المنظمات والشرائع الدولية في صون حقوق الإنسان وأبسطها الحق بالحياة، نقرأها عبر كتب التاريخ ونحاضر فيها ونعلّمها في جامعات العالم ونكتبها أجيالاً إثر أجيال كتباً ومقالاتٍ وأفلاماً فشلت في إيقاظ البشرية عبرالشاشات المعاصرة اليوم وكأنها أرضنا اللبنانية مهبط الحروب الأبدية التي لا بدايات ولا نهايات لها عبر هذا التاريخ الذي لا يوصف.
دعوني أتنفّس قليلاً لأمسح دمعتي ودموع الحبر العربي بحوراً لم تعرف الجفاف، أمسح دمعتي حيال سفك الحياة في غزّة ولبنان نعم لبنان، بانتظار الانتخابات الرئاسية الأمريكية المحيّرة بين الجمهوريين والديمقراطيين الخامس من نوفمبر(تشرين الثاني) المقبل وهو تاريخ تتطلّع إليه معظم البشرية لكنه سيتابع خطاه بالمجازر ولن يتركّز في تفاهمات الدول الكبرى وانتظارات الصغرى، هاتفني صديق متابعاً من الولايات المتحدة قائلاً بحزن: «عليكم في لبنان الانتظار حتى الانتخابات الأمريكية المقبلة وما بعدها فتحسّبوا للفواجع عاماً جديداً أو أكثر».
هكذا أتابع في تحرير نصّ أعتقده بليداً أشاركه القرّاء معتذراً، لربما يقيني بدله نصف فاتورة كهرباء العتمة اللبنانية العامّة ناهيك عن مراكمة الركام والجثث حولك وأمامك وفيهم الأطفال النازحون بلا عائلاتهم ومن يُعيلهم إذ يطال القصف عبر الطائرات المحمّلة بالصورايخ التي تتجاوز الهزّات الأرضية محقّرةً حسابات ريختر إذ تتحوّل القصور والبيوت والقرى والمدن قبوراً لم نقرأ عنها في الحروب إلاّ اليسير خجلاً من شيم المستقبل.
إنّه نص مقيم مخنوق في الحناجر يرتدي أزمنة قهّارة عاجزة حيال أزمنة مشبعة بدماء الأطفال وبؤسهم في التراب مقتولين مخنوقين جائعين صارخين قبل أن تلتقط ألسنتهم الأبجديات ولا آذان للعظماء -سوى صمّاء- تسمعهم أو تفهمهم، ولي كهلاً أن أسجن هذه «العظمة الدولية» بفشلها بين قوسين.
يا لأزمنة التفاهة في الأرض!! نفكّر معاً أيضاً بتفاهات القوانين الدولية والعدالة والأخلاق والسياسات وكيفيات وقعها بعد في آذان البشرية.
لماذا؟ مجدداً، لأنّ التشبّث بالقتل حسماً للصراعات الموغلة في التاريخ حتّى بين أعتى الدول وأعقل الحكّام وأكثرهم جنوناً يمحو مسألة «الحق بالحياة» المقدّسة أساساً في الفكر الديني والفلسفي والعلمي وحتى الطبي لكأنهم يخلعون الإنسانية من معانيها ومشتقاتها، في ظلّ انتخابات أمريكية يتراشق فيها الأمريكيون مختلفين على الحق بالإجهاض.
متى تشبع الأرض وتعيا الغرائز السلطوية من العنف؟ من يقنعنا بعدُ عمّا يعنيه للشعوب مجلس الأمن وميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتّفاقيات جنيف للعام 1949 والمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة وقرارات المؤتمرات الدولية وحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف والمنظمات الحكومية وغير الحكومية؟
ماذا تعني لكم كلمة المجتمع الدولي في المدارس والجامعات والمحاضرات والمقالات؟ كيف ومتى تتوفّر في الدنيا للفلسطينيين مسيحيين ومسلمين ويهود إمكانيات العيش في أرض وفضاء واحد زاخر ولو بقشور العدالة الإنسانية السياسية والاجتماعية؟
تبقى الأسئلة هي الحياة بينما تختزن الإجابات الضياع والحروب والموت.
[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق