أليس غريباً أن العقود الأخيرة، من التراجع العربي، لم تسفر عن ظهور تيّارات صوفية تعج بالزهاد والنساك والدراويش، في الأوساط الثقافية؟ لك أن تحار في كنه محافل الآداب والفنون. لكن، للإنصاف، يجب أن تراعي ظروفهم الذهنيّة والنفسية العصيبة. كانوا على الدوام، ربما بدوافع تقليديّة، يدعون الأيّام تفعل ما تشاء، وإذ بالبلدان ريش في مهبّ الريح، حضارات تتطاير، أوراق تاريخ تتناثر، ذكريات عصر أمويّ، ومكتبة عصر عبّاسي تحت حوافر خيول المغول، وتحف آلاف السنين مهشّمة أو منهوبة، بأيدي المغول الجدد.
ماذا يستطيع المثقف أن يقول أكثر من: «أشبعتهم شتماً وفازوا بالإبلْ»؟ مهلاً، لا يوهمنّك الطرح بما لا ينبغي الانصراف إليه. القلم لا يقصد المثقفين اليوم تحديداً. المستهدفون هم أهل الثقافة العرب بالمفهوم التراكمي. دعك من العصر الحديث رجوعاً إلى ثلاثة قرون. عليك برأس الخيط منذ مطلع القرن العشرين. جردة الحساب يجب أن تنطلق من أضيق نطاق للثقافة، أي المكوّنات التي كانت سائدة في الأفهام: الشعر، الرواية، المسرح، التشكيل، الموسيقى، السينما...
لا بدّ من السؤال أوّلاً: أين ذهب ميراث الحركات النهضوية، في الأقل منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر؟ هل يمكن إخراج عبدالرحمن الكواكبي من الدائرة الثقافية؟ ألم يكن رفاعة الطهطاوي تقترن في فكره الثقافة بالتنمية الشاملة؟ عشرات الأدمغة العربية لم تنفصل لديهم الثقافة عن الجغرافيا السياسية والاستراتيجية، فأين ذهبت ريحهم؟
هنا يأتي الربط بتقزيم الثقافة، وحبسها في المكوّنات المذكورة. هنا السؤال: هل للأوساط الثقافية أن تعطينا تفسيراً علميّاً للسقوط الحرّ في هاوية الانحدار، الذي وقعت فيه الموسيقى العربية؟ اليوم ليس أمام الأصوات الجيّدة، غير ترديد قديم المكتبة الموسيقية. حتى الجيّد من كلمات الأغاني اختفى. لا تقل إن الإبداع الشعري على خير ما يرام. السينما كذلك. المسرح والمسلسلات على ذلك.
من المسؤول عن أن المثقفين العرب لم تظهر في أوساطهم أيّ حركات تدعو إلى تطوير أنظمة التعليم. التملص سهل، يقال: شؤون التربية ليست ثقافية. الدعوة إلى تأسيس مراكز البحث العلمي والاستثمار فيها، ليست همّاً ثقافياً. الحث على تعزيز الرياضيات والفيزياء ليس مسؤولية المثقف. نكتشف في النهاية، أن نخب الفكر والثقافة التوعوية، أمست متفرّجة تحصي المآسي المتتالية، الناجمة عن الوهن المادّي والمعنوي، الذي يتجسد اليوم في ألوان من الاستهتار بالشعوب والأوطان والقانون الدولي وأدنى حرمة للإنسان.
لزوم ما يلزم: النتيجة الواقعية: إذا لم يكن للثقافة دور نهضوي في الحياة العامة، فما جدواها ولمن الإبداع؟
[email protected]
0 تعليق