تونس.. وخيار الدولة الاجتماعية - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا يمكن القول إنّ التحوّل من حالة الدولة الليبرالية المطلقة إلى حالة الدولة الاجتماعية، هو أمر سلس ويسير، خاصّة إذا كانت قوى النفوذ قد اكتسبت طوال عقود من الزمن سلطات جعلت الدولة مجرّد خادمة لها. ومع ذلك فإن ما يحدث في تونس من استعادة الدولة لدورها الاجتماعي هو أمر حقيقي وخيار استراتيجي.
لقد ارتبط استقرار الوضع الاجتماعي في تونس بالحالة الاجتماعية للمجتمع وبخيارات الدّولة، ولذلك كانت أكبر الأحداث والهزات الاجتماعية في تونس مقترنة بسلوك الدولة تجاه المجتمع وبقراراتها اللااجتماعية التي شكلت في وقت من الأوقات عوامل ضاغطة أدت إلى انفجارات اجتماعية كان آخرها ما حدث في سنة 2011. ولكن ما حدث بعد سقوط نظام بن علي كان ارتداداً خطيراً عن خيارات كانت إلى حد ما تراعي الوضع الاجتماعي إلى حالة تغول شبه كلية للدولة الليبرالية المجحفة والتي تسربلت بغطاء ديني- سياسي، كان في واقع الأمر مجرد خادم لها ومنفذ مطيع لسياساتها. ولذلك فإن هذه التوجهات الجديدة التي أصر الرئيس قيس سعيّد على تنفيذها شكّلت تحولاً نوعياً بدأ يعطي الدولة نفساً جديداً بعد أن كادت تلفظ أنفاسها في سياسات ما قبل 25 يوليو(نموز) 2021.
الخيارات الاجتماعية كانت واضحة منذ البداية، فنحن أمام رئيس رفض أن يطبق شروط صندوق النقد الدولي وأن يفرض سياسة تقشفية تزيد من معاناة التونسيين، وأن تكبّل القطاعات الحيوية وتدفعها نحو الانهيار الشامل. ثمّ بدأ الاهتمام من أعلى هرم السلطة في تونس بقطاعات حيوية مثل الصحّة، ودفع ذلك إلى إثارة ملفات كثيرة كانت راكدة، والأهم هو الدفع نحو استثمارات ضخمة من الدولة ومع الشركاء الدوليين لبناء قاعدة صحية جديدة تقدّم خدمات تليق بالفرد التونسي، وهنا نستحضر قولة الزعيم جمال عبد الناصر حينما سأله الناس عن أفق الثورة عند زيارته لمستشفى القصر العيني فأجابهم بأنّه من الأولى تحرير نزلاء المستشفى وتقديم خدمات جيّدة لهم. هكذا هي تونس الآن، إذ تعيش معركة حقيقية لاستعادة قطاع الصحة لمجده وهو الذي كان علامة فارقة جعلت من تونس قبلة ومزوداً للخدمات الصحية ليس لمواطنيها فقط بل لكل المنطقة.
الأمر الثاني الذي لا يقلّ أهمية في خيارات تونس الجديدة وهي الخيارات الاجتماعية الاستراتيجية، يكمن في محاربة الفساد وتجفيف منابعه. والحقيقة أن هذه المعركة ليست سهلة، فتونس حوّلها الفاسدون إلى مجرّد هيكل يخدم مصالح الفاسدين ويقنّنها ويشرعنها ويجعل لها غطاء سياسياً، وهكذا تورم المرض الخبيث حتى صار علاجه أمراً يكاد يكون مستحيلاً، غير أن الإرادة الصلبة للرئيس قيس سعّيد، بدأت تعطي أُكُلَها، خاصة بعد تساقط الكثير من رؤوس الفساد، حيث لم يعد هناك أحد يمكنه الاحتماء بقوة تمنع عنه المساءلة.
وبدأ التونسيون يلاحظون أن زيارات رئيسهم إلى عدد من المؤسسات العمومية باتت مقترنة بحرب شرسة ضد كل مظاهر الفساد، وهذا شرط أساسي للبناء الجديد إذ لا يمكن البناء على قواعد رخوة أو قواعد يتحكم فيها أناس فاسدون. وتقترن الحرب على الفساد بهبّة أمنية شاملة لتطهير البلاد من عصابات الاتجار بالمخدرات، والتي أضرت بالكثير من الشباب التونسي وجعلته أسير هذه الآفة القاتلة.
ومعلوم أن أباطرة المخدرات هم أنفسهم أباطرة الفساد حيث تجتمع ثلاثية المال والمخدرات والإرهاب لتخريب الدول وتفكيك مجتمعاتها، ولذلك عندما يتحدث الرئيس قيس سعيّد عن معركة تحرير وطني فهو يدرك حجم الأخطار التي تتهدد البلاد وتشلّ قدرتها على الحركة.
إنّ الملف الثالث الذي راهن عليه الرئيس سعيد، هو العدالة الاقتصادية، فلا عدالة اجتماعية دون عدالة اقتصادية، وهنا ستكون التحولات ربما أكثر عسراً، لأنّ الفاسدين أسسوا لأنفسهم إمبراطوريات حصينة سيطرت على كل مفاصل الاقتصاد التونسي وحوّلته إلى اقتصاد ريعي بل عائلي ضيّق فيما يعيش بقية التونسيين على شظف العيش مهما كانت مستوياتهم العلمية الثقافية. وعليه فإن التحدي الأكبر والرهان القادم يتمثل في تحرير المبادرة الاقتصادية ومنح الشباب التونسي فرصة استثمار قدراته الابداعية والعلمية ومهاراته، وفرصة خلق الثروة بدل البحث عنها في ما وراء البحار.
وفي هذا الشأن لتونس الكثير من المقومات الاستثمارية والكثير من القدرة التنافسية في محيطها أو في السواق الدولية، وهي بالتأكيد قبلة المتنافسين على الاستثمار فيها والذين بدأوا في العودة إليها راغبين في شراكات أوسع واستثمارات ضخمة، ولن يكون المستقبل إلا من صنع قرطاج وبإيمان رئيس يرى أنّ التاريخ لن يسجل سوى العظماء الذين أضافوا إلى شعوبهم وقادوهم إلى التحرر الشامل.

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق