في الرّومانسية السّياسية، فقط، يوجد إمكانٌ لتشييد معمارٍ من الصّور الورديّة البهيّة للسّياسة، ولتقديمها بما هي فعاليّة إنسانيّة عاقلة وأخلاقيّة ومتحضّرة تُتَرجِم أخلاق من يمارسونها ويشاركون في عالمها. وفي الرّومانسية السّياسية، فقط، يمكن حسبان كلّ سياسة تَحِيد عن خطِّ هذه الطّبائع أو تُجدّف ضدّ تيّارها فعْلاً لا ينتمي إلى السّياسة أو هو فعْلٌ قبلُ سياسيّ. لذلك، يخرُج العنف - في الفكر الصّادر عن هذه النّزعة الرّومانسية- من نطاق نظام السّياسة ومن عُدّةِ شغلها لأنّه، كما يراهُ، نقضٌ لنظام السّياسة وإبطالٌ لإمكانها.
ليس من شكٍّ في أنّ من يذهبون هذا المذهب في النّظر إلى السّياسة - وفي جملتهم فلاسفة وعلماء سياسة - إنّما يفكّرون في سياسةٍ افتراضيّة غيرِ ذاتِ وجودٍ، وبالتّالي، لا يتناولون السّياسة على نحو ما هي جارية في مجرى الواقع الموضوعيّ، بما تُفْصِح عنه - وما تُضْمِره - من أبعادٍ وعوامل تقع موقعَ النّقيض ممّا يعتقدون أنّه من أركان السّياسة ومَحَامِلها. لذلك هُمْ لا يَلْحظون ما وراء شجرة السّياسة من غابة العوامل التي تُخْفيها (الشّجرة)، وتمنع من رؤية آثارها فيها، وليس من شكّ في أنّ العنف واحد من تلك الدّيناميّات العميقة التي تَصنع السّياسةَ وحقائقها المادّية، والتي يَخْفَى أمرُها عن أولئك الذين يتحدّثون عن نموذج ذهنيّ مجرّد للسّياسة ومستغرِقٌ في أَمْثَلتها.
حنّة أرندت، الفيلسوفة وعالمة السّياسة الألمانيّة - الأمريكيّة، واحدةٌ من أَظْهَر أولئك الذين يذهبون إلى هذا الضّرب من النّظر الرّومانسيّ إلى السّياسة من مفكّري الغرب وفلاسفته، بل لعلّها الأعلى تنظيراً للاقتران بين السّياسة وزوال العنف. تفترض أرندت أنّ العنف فعْل سابق للسّياسة وجوداً في المجتمعات كافّة، وأنّ السّياسة ما وُجِدَتْ إلا لتحقيق التّسويّات والتّوافقات ومنْع التّباينات بين النّاس من أن تُفْصِح عن نفسها من طريق العنف. وهذا إنّما يمكنه أن يكون في نظرها، متى وُضِعَتْ قواعدُ سياسيّة لضبط أفعال غير سياسيّة.
مبْنى الفكرة هذه على فرضيّة لديها تقول إنّ السّياسة، في تعريفها النّظريّ، هي تلك المساحة الوسيطة بين الذّوات التي يسمح الاشتراكُ فيها بالتّواصل بينهم والتّفاهم على قيمٍ وقواعدَ مشتركة. ومعنى ذلك أنّ السّياسة تجسيدٌ مكثّف لذلك التّواصل الذي به تكون حياة عامّة، فيما يمثّل العنف نقضاً لكلّ تواصُل وإفناءً لكلّ ممكنات نشوء مجالٍ عامّ مشتَرَك. وليس هذا، عند أرندت، معنى السّياسة في الفكر الحديث حصراً، بل هو معناها الابتدائيّ الأوّل الذي أرساه الإغريق أنفسهم، وورثه عنهم الرّومان ثمّ الأوروبيّون المحدثون.
ربّما أمكن أن نتفهّم دواعي أرندت إلى التّعالي بمعنى السّياسة إلى حيث تلك المرتبة المثاليّة التي تكون فيها (مجرَّدةً من العنف) إذا ما نحن أخذنا في الحسبان معاناةَ ألمانيا صعودَ النّازيّة فيها، وما ارتكبهُ نظامها من مجازرَ وقمْعٍ رهيب ساءَ بها معنى السّياسة. وبهذا المعنى يكون مفهومُها للسّياسة، بوصفها فعاليّة خالية من العنف، إدانة صارخة للنّظام النّازيّ وتشديداً على أنّه لم يُدَهْوِر معنى السّياسة، بما فعله بمواطني ألمانيا وغيرهم، فحسب، بل عاد إلى ممارسة أفعال بربريّة وضاريّة تنتمي إلى ما قبل السّياسة.
غير أنّ تفهُّم أسبابِ القول - وهو مسْلكٌ معرفيّ مطلوب لإماطة النّقاب عن الدّوافع الحاملة على حَمْل مفهوم السّياسة على ذلك المعنى - لا يغيِّر في شيءٍ من حقيقة غلُوِّ التّعريف الأرندتيّ للسّياسة، وعدم جواز بنائه على واقعةٍ مجتَزَأة (النّازيّة)، علماً أنّ البناءَ هذا ليس البناءَ الوحيدَ الممكن، فلقد كان يسعها أن ترى في النّظام النّازيّ تجسيداً مُفْرِط التّمثيل لعلاقة التّلازُم العضويّ بين السّياسة والعنف فتخرُج (بذلك التّعريف) من حالةِ إنكار العلاقة بين حدّيْن اقترنا عبر تاريخ السّياسة وتَلَبَّس كلٌّ منهما الثّاني.
يكذِّب التّاريخ، تاريخُ السّياسة، هذا المعنى الذي ذهبت إليه أرندت وأضرابُها للسّياسة وتعاليها عن العنف، بل وقطيعتِها الحاسمة معه. يَدُلنا تاريخُ السّياسة الفعليّ - تاريخ الدّول وأنظمة السّلطة والحكم لا التّاريخ المتخيل - على أنّ العنف ما بارحَ السّياسة، يوماً، ولا تحرّرت منه الأخيرةُ برهةً (على افتراض أنّ ذلك من مُبْتَغَياتها)، بل لازمها حتّى أوشك أن يصير عنواناً لها.
صحيحٌ أنّ مقادير حضور العنف في السّياسة مختلفة، وأنّه كان أشدّ كثافةً في نُظُم السّياسة والسّلطة في دول الماضي، القديمة والوسيطة، ممّا هو في النّظُم الحديثة والمعاصرة، وصحيحٌ أنّ نظام الدّولة الحديثة نجح في توفير قواعدَ وآلياتٍ لامتصاص مقاديرَ هائلة من العنف في الحياة العامّة، سواء من طريق ردْعها بوسائل الرّدع الماديّة والقانونيّة أو من طريق التّربيّة على قيم المواطَنة والحوار والاختلاف...، ولكنّ ذلك ما مَنَع الفعل السّياسيّ - السّلطويّ أو المدنيّ - من أن يَرْكب مَرْكب العنف الصّريح، أحياناً، والمُبَطَّن أحايين أخرى. ولم يكن ذلك تعبيراً مّا عن انحرافٍ في قواعد السّياسة الحديثة، كما قد يُظَنّ، بل لأنّ السّياسة ليست فعلاً عاقلاً دائماً، ولا هي دائماً منضبطة لِمَا تقضي به القوانين ولِمَا تقضي به المصلحةُ العامّة، إذْ ما أكثر ما ترجمت نوازع اللاّعقل في الإنسان واللّاأخلاق واللّاخيْر، فأطلقت أفعالاً هي إلى الحيوانيّة الافتراسيّة أقرب منها إلى النّظام الإنسانيّ وإلى عاقليّة النّشاط الإنسانيّ!
0 تعليق