ما الجديد الذي يمكن التفكير فيه والعالم يحتفل بـ«يوم اللغة العربية» في 18 ديسمبر/ كانون الأول من كل عام؟، إن نظرة جديدة إلى تاريخ العربية تؤكد لنا عدة حقائق، فبإمكاننا ملاحظة أن العربية لم تكن يوماً لغة هيمنة ثقافية أو حتى إدارية، يحملها الفاتحون إلى الأراضي الجديدة ويفرضونها بالقوة على شعوبها، نعرف مثلاً، أن أول من عرّب الدواوين وجعل العربية لغة الإدارة والمراسلات الرسمية هو عبد الملك بن مروان، وحتى ذلك الوقت لم يرفض العرب استخدام الفارسية في جهاز الحكم في العراق، أو الرومانية في بلاد الشام أو القبطية في مصر، وهو ما يتناقض مع تجارب آخرين، فأول ما يحمله الفاتح إلى الأرض التي يدخلها لغته وثقافته.
في السياق السابق أيضاً، يخبرنا التاريخ كذلك أن التعريب كان سريعاً في العراق وبلاد الشام مثلاً نظراً لوجود الكثير من القبائل العربية في هذين الإقليمين لفترات طويلة قبل الإسلام، أما في مصر وشمال إفريقيا فقد تأخر التعريب لقرون، ويقال إن العربية لم تصبح لغة الحديث الأولى بين المصريين إلا في القرن الرابع أو الخامس الهجريين.
في منطقة أخرى من العالم انتشرت العربية في إفريقيا جنوب الصحراء، مع التجار الذين بشروا بالإسلام، وببطء تحولت إلى لغة للعلم والأدب، وكتبت الكثير من تلك المناطق والقبائل لغاتها الخاصة بالحرف العربي، وما بني على مدار قرون دمره الاستعمار الغربي في ظرف عقود، حيث تخلت تلك الأماكن عن الحرف العربي واستخدمت اللاتيني بدلاً منه، وللكتابة بالحرف العربي سيرة أخرى في شبه القارة الهندية وإيران وتركيا.
في ذلك المسار لم يحدث أن قام العرب بحروب إبادة لغوية في أي مكان دخلوه، وفي المنطقة الأم للعربية الممتدة من الخليج إلى المحيط عاشت أقليات لغوية كبيرة، ولم تشهد المنطقة نفسها نزاعات وصراعات وصدامات بين لغة الأغلبية والأقلية.
وفي جانب آخر من تاريخ مسار الانتشار هذا سنجد تأثيراً متبادلاً بين العربية ولغات أخرى في المنطقة، وتأثير مماثل بين الفصحى واللهجات العامية، بحيث استفاد المعجم اللغوي العربي نفسه من آلاف الكلمات المستمدة من لغة الحوار اليومي أو ذات الأصل الأجنبي، وبدورها أثرت العربية في لغات عديدة أخرى.
إن القدرة على التعايش والتأثير والتأثر، لا تقتصر على البشر وحسب، ولكنها تمتد إلى اللغات أيضاً، وقراءة أخرى لتاريخ العربية من هذا الجانب ستكشف لنا أنها كانت لغة تعايش وسلام وتسامح، لم تُفرض بالقوة في أي بلد، ولم تمحُ لغةً أخرى، وفي العصر الحديث استطاعت أن تنجو من براثن الاستعمار، وها هي تستطيع أن تثبت في وجه العولمة، وتصبح رابع لغة متداولة في شبكة الإنترنت برغم ما يقال دائماً عن ضعف المحتوى العربي نفسه.
وبرغم ما يبدو من الظاهر أنها تتراجع في معاهد ومراكز التعليم وسوق العمل، وهو ما يؤكد لنا أن العربية يمكن أن تحقق مرتبة متقدمة للغاية في عالم اللغات لو آمن أهلها حقيقة بها وعملوا على ذلك بجد وإخلاص.
0 تعليق