المعجم التاريخيّ للغة موسوعة في تاريخها، يؤرّخ لها باستعمال ألفاظها، ويقدّم لكلّ معنى ما يشبه أن يكون شهادة ميلاد، تؤرِّخ لدلالته واستعماله، كما تؤرّخ لأبعاده الحضاريّة المختلفة في حياة الأمّة؛ لأنَّه معجم من نوعٍ خاصّ، يتجاوز فكرة انتقاء الألفاظ، أو سرد معانيها المشهورة المتداولة في مقطع من الزمن، أو في مرحلة من تاريخ اللغة، أو صنف من أصناف التداول بها كالأدب؛ ذلك أنَّه سِجلّ صادق، تجد الكلمات فيه مكانها الطبيعيّ في الظهور الأول، وفي تجليات المعنى، وتحوّلات المبنى، وانتقالات الاستعمال بين الحقيقة اللغويّة، ومجازاتها، وارتحالها إلى عالم المصطلحات.
وقد كان المعجم التاريخيّ للغة العربيّة حُلماً راوَد عاشقي العربيّة ومحبّيها من قرن ونصف من الزمان، لكنَّه ما رأى النور، مع تواصل المحاولات لتحقيقه حتى أَذِنَ الله سبحانه وتعالى بأن يشرق على الناس عامة والمتحدّثين بالعربيّة خاصّة من العاصمة العالمية للكتاب، بل للحرف الجميل، وللكلمة الوفيّة المبدعة؛ فجاءت إشراقته الأولى من الشارقة في دولة الإمارات؛ لتسجّل إمارة الشارقة وحاكمها ومجمع اللغة العربيّة فيها بذلك النجاح الأوّل للأمّة العربيّة في إنجاز المعجم التاريخيّ للعربيّة، ولتسجّل للتاريخ أنَّ هذا المعجم وَجَّه إلى إنجازه حاكم عربيّ وعالم مؤرّخ أبيّ وأديب ألمعيّ وسادن من سَدنة العربيّة الذي حَوّلَ بإرادته وعزيمته وتشجيعه وبإشرافه الحلم إلى حقيقة، فسجّل التاريخ أنَّ صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسميّ عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، أحاط اللغة العربية بعنايته وكلأها برعايته.
بل اليوم سجل التاريخ أن المعجم التاريخي للغة العربية ليس أول معجم تاريخي للغة العربية فحسب، بل هو أكبر معجم تاريخي على مستوى العالم بشهادة موسوعة جينيس للأرقام القياسية.
ومن يطّلع على المعجم التاريخي يتبيّن له أنَّه يأخذه في رحلة علميّة تاريخيّة للكلمة العربيّة الفصيحة من انبثاق استعمالها الأوّل في اللغات الساميّة واللغات البائدة والنقوش القديمة والآثار إلى دخولها مرحلة اللغة العربيّة الفصيحة التي نزل بها القرآن الكريم، ثم السير في رحلة الاستعمال والمعرفة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة حتى العصر الحديث، فهو تاريخ لغويّ ثقافيّ صادق، يتجاوز الانحياز والميل والهوى إلى الحقيقة التاريخيّة المرتبطة بالزمن الأول للاستعمال، وبالوثيقة التاريخيّة الدالة على ذلك من الشعر أو النثر بنظام توثيق مُحْكَمٍ عجيب دقيق.
ويبدو أنَّ القائمين على المعجم قد أخذوا أنفسهم بمنهجين في إعداده؛ المنهج التاريخيّ في تتبّع رحلة الألفاظ، ومنهج علم الحديث النبويّ في التوثُّق من استعمال اللفظ حين تداول معناه، فقد كانوا في بحثهم عن أصل الاستعمال حريصين على تحديد بداية الاستعمال للفظ ومعناه، ثمّ التدليل على ذلك بالنصّ الذي جاء فيه ذلك اللفظ موثّقاً من المصدر الذي ورد فيه لأوّل مرّة، حتى إذا تغيّر المعنى أو المبنى.
إنَّ المؤكّد في أثر هذا المعجم في الدراسات الحديثة أنَّ كلّ باحث سيجد فيه طريقَ ألفاظه وسيعرف منه رحلة كلماته، فيعرف كيف بدأت وظهرت؟ وكيف صارت وتطوّرت عبر رحلة الزمن والاستعمال، وسيعيد البحثُ فيه تصحيح ما دخل تاريخنا الثقافيّ من أوهام؛ كما سيعيد بناء العلاقات اللغويّة بين العلوم عندما يسير المصطلح الواحد في مسارات مختلفة في معناه حسب العلوم التي يتجلّى استعماله فيها.
لكنَّ أجمل ما سيكشف عنه تتبّع المصطلحات في هذا المعجم التاريخيّ أنَّها في غالبها قد ظهرت من بوتقة العلوم الشرعيّة لخدمة القرآن الكريم والعرب والمسلمين، وأنها تعايشت في جسور من المعرفة العلميّة بين العلوم تؤكّد أصالة الأبحاث البينيّة في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، كما تؤكّد القدرة الهائلة للعربيّة على الوفاء بالمتطلبات الدلاليّة والحضاريّة والعلميّة لاستعمال الألفاظ عند تعريبها، أو عند تطوير الكلمة العربيّة لاستيعاب المنجزات الحضاريّة المستجدة في العلوم والفنون.
0 تعليق