على وقع التعديلات الأخيرة لقانون المرافعات المدنية والتجارية، التي تضمّنت رفع النصاب القيمي لعرض الطعون أمام دوائر محكمة التمييز، فإن أغلب المنازعات التجارية والمدنية والعمالية لن تصل إلى «التمييز»، وستكون الأحكام الصادرة عن دوائر محكمة الاستئناف نهائية.
وإزاء ذلك القيد المالي للنصاب القيمي بقيمة 30 ألف دينار، المقرر لوصول المنازعات إلى محكمة التمييز، وبعد رفع قيمة الكفالة للطعن أمام المحكمة بقيمة 500 دينار، يتعيّن على المشرّع إعادة النظر في إجراءات الطعن أمام محكمة الاستئناف، وذلك بإنشاء نيابة للاستئناف تعمل على فحص الاستئنافات والطعون، وبيان أوجه الخلل الذي أصاب الأحكام المستأنف عليها، الصادرة من محكمة أول درجة الكلية، وذلك على غرار الدور الذي تقوم به نيابة التمييز حالياً بتحضير الطعون وفحصها قبل عرضها أمام محكمة التمييز.
وتكمن الحاجة إلى إنشاء نيابة للاستئناف في أكثر من وجه، نوردها على النحو التالي:
أولاً: وجود نيابة للاستئناف تعمل على فحص الاستئنافات والطعون المعروضة أمامها يتحقق معه الهدف بتلخيص الطعون أمام دوائر محكمة الاستئناف واستظهار الخلل الذي اعترى تلك الأحكام الصادرة من دوائر المحكمة الكلية، لاسيما أن هذا الدور برز من قبل نيابة التمييز التي لا يمكن أن يُنكَر دورها بالمساهمة في بيان الخلل والمثالب التي تعتري الأحكام وتلخيص الطعون التي تُعرض أمام محكمة الاستئناف وبيان أوجه قبولها أو رفضها، مع الوضع بعين الاعتبار أنها محاكم تنقل الدعوى برمّتها.
ثانيا: بإغلاق باب الطعن أمام محكمة التمييز في وجه المنازعات التي تقل قيمتها عن 30 ألف دينار، وبسبب رفع كفالات الطعن، وجب على المشرّع أن يوجد طريقا يسهم في رفع جودة الأحكام الصادرة من دوائر محكمة الاستئناف، وذلك لأن التجربة التي كشفت عنها قوانين أسواق المال والأسرة بنهائية الأحكام الصادرة من دوائر محكمة الاستئناف، وعدم جواز الطعن عليها أمام محكمة التمييز، أظهرت وجود أحكام ليست ذات جودة وتتضمن العديد من المثالب والأخطاء، وأن السبيل لإصلاح تلك الأخطاء في الطعن عليها أمام محكمة التمييز، إلا أن باب تلك المحكمة موصَد من قِبل المشرّع.
ولذلك، فإن تكرار الخطأ وعلى نحو أوسع سوف يتسبب بوجود العديد من الأحكام المعيبة والمليئة بالمثالب، والتي لا تتحقق بها العدالة ولا يمكن الطعن عليها أمام محكمة التمييز، بسبب إغلاق المشرّع طريق الطعن عليها أمام محكمة التمييز.
ولعل فحص تلك الاستئنافات والالتماسات أمر يستدعي - من جهة أخرى - قيام نيابة الاستئناف، مثل نيابة التمييز، بمراجعة الطعون وبحث أسبابها للوصول إلى سلامة الطعون.
ثالثا: بعد تعديل المادة 200 مكرر من قانون الاجراءات والمحاكمات الجزائية، والتي سمحت بالطعن على الأحكام الصادرة من محكمة الجنح المستأنفة أمام دوائر جنح التمييز، وهي دوائر في محكمة الاستئناف العالي، إلا أن الطعون المقامة أمام تلك الدوائر التي أشار القانون بانطباق جميع إجراءات الطعن أمامها بالإجراءات المقررة بالطعن على الأحكام الصادرة من دوائر الجنايات الاستئنافية أمام محكمة التمييز الجزائية، وتلك الأخيرة تعرض طعونها أمام نيابة التمييز، إلا أن طعون جنح التمييز لا يتم عرضها امام نيابة التمييز لبيان تلخيصها وعرض أوجه الخلل والمثالب التي تعتري الأحكام الصادرة من دوائر الجنح والجنح المستأنفة، والتي تعمد دوائر جنح التمييز إلى تصويبها بما يكشف حجم العمل الذي تؤديه المحكمة، وهو دور سوف يتطور بوجود نيابة للاستئناف.
رابعا: بوجود نيابة للاستئناف لعرض الطعون والاستئنافات أمامها ستعمد على توثيق العديد من المبادئ والقواعد التي تصدرها دوائر محكمة الاستئناف على مستوى محكمة الاستئناف، على الرغم من أن من يقرر المبادئ هي محكمة التمييز، إلا أنه نظرا لانفصال واقع محكمة التمييز عن العديد من الأنزعة كأسواق المال والأسرة، والآن في كل المنازعات التجارية والمدنية والعمالية التي تقل قيمتها عن 30 الفا، فإن تلك الأنزعة افتقدت القواعد والمبادئ التي تقررها المحكمة، والتي تعين الدوائر على الأخذ بها عند الفصل بالأنزعة المعروضة امامها.
وأخيرا، فإنه بإلغاء درجة الطعن بالتمييز على أغلب الأنزعة، نظراً للقيود المالية الجديدة في التعديلات بعد نشرها في الجريدة الرسمية، فإن الحال تقتضي العمل على ضبط جودة الأحكام في محكمة الاستئناف، وإنشاء أجهزة معاونة لذلك، كإنشاء نيابة للاستئناف، وهو ما سيخفف على المتقاضين فكرة اللجوء لقضاء التمييز.
ولذلك، فإن المشرّع مُطالب بإعادة النظر مجددا في مخاطر إغلاق باب الطعن في التمييز، عبر رفع النصاب القيمي للمطالبات المعروضة بقيمة 30 ألف دينار، وبرفع كفالة الطعن إلى 500 دينار، لأن ذلك سوف يتسبب في الإضرار بحقوق المتقاضين من حرمانهم من عرض أنزعتهم أمام المحاكم العليا، خاصة أن قواعد القانون لا تسمح برفع دعاوى لبطلان الأحكام أو تقديم التماسات بشأنها إلا في حالات ضيقة جدا يصعب تحقيقها، وهو ما يتعين معه إعادة النظر في التعديلات أو بإقرار نيابة للاستئناف.
0 تعليق