الشارقة: جاكاتي الشيخ
شكّلت عراقة فن الخط العربي تأكيداً على جمال الحروف العربية، فاستمر الفنانون يقدمون من خلاله أعمالاً إبداعية متنوعة، تكشف في كل مرّة المزايا التي جعلته يستمر بين الفنون الجميلة، رغم كل ما شهدته تلك الفنون من تطور وتجديد، إلا أن كل ذلك لم يزد هذا الخط إلا رسوخاً في قلوب الفنانين في مختلف العصور، وعلى اختلاف ثقافاتهم، وهو ما تمثّله الفنانة الإسبانية نورية غارسيا.
وجدت نورية غارسيا في الفنون الإسلامية لغة تعبيرية فنية تعكس ما يدور في مخيلتها، بعد أن عجزت الفنون المعاصرة عن ذلك، فكان لتعلمها للغة العربية والفنون التقليدية كالزخرفة والخط، دور كبير في تعلقها بتلك الفنون، حيث أحبت فن الخط الذي يمكنها من خلاله تنفيذ أعمال فنية جميلة بأدوات قليلة مثل ورقة وحبر أسود، عكس الفن التشكيلي المعاصر الذي يتطلب مساحة كبيرة والكثير من الألوان والمعدات، إضافة إلى ما يستلزمه هذا الخط من انضباط وصرامة، تتيح لها إمكانية الإعادة والتكرار حتى تخرج عملها بحريّة في الشكل النهائي الذي ترغب فيه، وهو ما جعلها تركز في تلك الأعمال على المنهج الكلاسيكي للخط مستمتعة بتطبيق التقنيات التقليدية القديمة، كما نشاهد في هذه اللوحة.
اختيار
اختارت غارسيا للوحتها جزءاً من نص الآية 156 من سورة الأعراف، حيث يقول تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، وهي آية تشير إلى سعة رحمة الله، التي يشمل بها من يشاء من عباده، لأنه أرحم الراحمين، وقد اختارتها لما تمثّله ثيمة الرحمة من قيمة روحانية تتغلغل في وجدان المشاهد، ليتمثلها في حياته مع سواه من البشر، كما اختارت أن تكتبها بخط الثلث لما يتميز به من مرونة ومطاوعة، وما يجد فيه الخطاط من حرية في التكوينات والتراكيب مهما كانت المساحة المتاحة له، حيث يستغله حسب قدراته الإبداعية لتنفيذ ما يرغب فيه من تصاميم، دون أن يغفل الالتزام بالخصائص الجمالية المميزة له، مثل التحكم في تنويع شكل الحرف الواحد في اللوحة إن تكرّر وروده، وفق حاجته الجمالية في التصميم الخطي، ودقة نسب الحروف والكلمات ومقاييسها، من خلال منحها ما يلائمها من أبعاد، ليتحقق التناسق الفني المتقن، إضافة إلى تقاطع تلك الحروف والكلمات وتراكبها بما تفرضه الهيئة العامة لشكل العمل، حتى تظهر اللوحة بجمالياتها المتكاملة، وكلها خصائص فنية، كانت مما شدّها لفن الخط العربي.
تناسق بصري
صمّمت غارسيا لوحتها في تكوين هرمي محكم، راعت فيه قوة التراكيب، ومتانة القواعد التي يوفرها خط الثلث، فكتبت نصها في مستويين، حيث انطلقت من اليمين في خط المستوى الأول، فكتبت «وَرَحْمَتِي»، بشكل واضح مركّبة بعض حروفها على بعض، ومستفيدة مما يتيحه هذا الخط من تنويع في كتابة الحرف الواحد والحروف المتشابهة، وهو ما يتجلّى في شكل حرفي الواو والراء، كما كتبت حرف الحاء بشكل كبير، بهيئة تبديه مدوّر القاعدة، وكأنها بكل تلك اللمسات تريد أن تشير إلى عظم شأن رحمة الله، وما تعنيه الرحمة بشكل عام من قيمة جليلة، ثم كتبت «وَسِعَتْ»، مراعية في حرف الواو ما راعته في الكلمة الأولى، حيث جعلت شكله مختلفاً عن الواو الأولى، ما يؤكد وعيها التام بالكتابة بخط الثلث، وهو ما تكرر في حرف العين، الذي تركت عينه مفتوحة، ورسمته في هيئة مماثلة لشكل حرف الحاء في «رحمتي»، لتشير إلى نفس المعنى السالف لقيمة رحمة الله وسعتها، ولتوحي بتناسق معنوي يكشف عنه التناسق البصري بين شكل الكلمتين، وكأنها بجعل الكلمتين السابقتين قاعدة للتكوين الهرمي، وكتابتهما في مساحة كبيرة، تشير إلى احتواء تلك الرحمة لما يأتي من بقية النص المكتوب في قمة التكوين الهرمي، وفي مساحة أصغر، وهو: «كُلَّ شَيْءٍ»، التي بدأتها بكتابة «كُلَّ» بشكل كبير، ثمّ ركّبت عليها «شَيْءٍ»، لتمام المعنى، بأن هذه الرحمة لا تستثني شيئاً، لأن الله يغفر لمن يشاء.
وقد أثبتت غارسيا من خلال هذه اللوحة قدرات إبداعية فائقة، دون أن تكلف نفسها الإكثار من الألوان، مؤكدة بذلك قدرة الإمكانات الفنية للخط العربي، وما تبوح به من جماليات بصرية أخاذة.
إضاءة
ولدت نورية سنة 1978م، ونشأت بين وطنها الأصلي إسبانيا وأمريكا، وبعد أن حصلت على الإجازة الجامعية في الأدب الفرنسي والإسباني في جامعة جورج واشنطن سافرت إلى المغرب، حيث بدأ اهتمامها بالفن الإسلامي، وفي 2000 بدأت تعلّم الرقعة والنسخ على يد محمد زكريا في العاصمة واشنطن، وانتقلت إلى إسطنبول لتتابع دراسة الخط على يدي حسن جلبي وداود بكتاش، ونالت الإجازة في الثلث والنسخ من أرسيكا سنة 2007، تابعت تعليمها العالي في تاريخ الفن، وفازت بعدة جوائز دولية.
0 تعليق