القاهرة - «الخليج»
ذاع قول القائلين بأن ابن خلدون هو المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع، وقد تردد هذا القول على ألسنة العديد من المستشرقين ومؤرخي العلوم بل وعلماء الاجتماع، ولم تقتصر الحفاوة بريادة ابن خلدون في حقل علم الاجتماع، بل وُصف بأنه أبو علم الاقتصاد، وبأنه أول فيلسوف تاريخ، إلا أن هذه الحفاوة لم تترجم إلى تطبيق منهجي للنظرية الخلدونية، في تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية والتاريخية المعاصرة.
تعود أسباب هذا التهميش إلى عوامل ذاتية وأخرى موضوعية، إذ لا شك أن التحولات الحديثة غيّرت البنى الأساسية، التي تقوم عليها أية نظرية اجتماعية، ما قبل حديثة، فقد تغيرت الهياكل الأساسية للاقتصاد السياسي، وظهرت مع الثورة الصناعية ثم العولمة، أنماط جديدة من وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج.
كما طرأت تحولات جوهرية على علاقة الأرياف والبوادي بالمدن، وتراجع الحضور السياسي للقبلية، وتغيّرت الأسس التي تنهض عليها شرعية السلطة السياسية في دولة المواطنة الحديثة، إلا أن هذه التحولات لا تنفي جدارة التقليد الخلدوني وقدرته على الاستطراد وتطوير عدته النظرية وقدراته التفسيرية، فبعيداً عن الإسقاطات التاريخية الفجّة، يمكن النظر إلى دورة صعود الدول وسقوطها بمصطلحات أكثر معاصرة، فالقبيلة بوصفها وحدة للتضامن أعمّ من روابط الدم، لا تزال فاعلة بأشكال عديدة، ولا تزال العصبية مؤثرة في المستوى الاجتماعي – السياسي، وهي قادرة على تفسير سلوك الجماعات السياسية، وتفسير بعض أنماط الولاء داخل النخب الفاعلة في الدول.
لا تزال الصورة الكلاسيكية لنظرية ابن خلدون قادرة على تفسير دورة صعود الدول وانهيارها في العديد من الحالات التاريخية والمعاصرة، كما يبين «السيد فريد العطاس» في كتابه «تطبيق ابن خلدون.. إحياء تقليد مهجور في علم الاجتماع» (ترجمة أسامة عباس)، إذ يطبق المؤلف النظرية الخلدونية على الدولة الصفوية والعثمانية وغيرها من الدول الحديثة، كما يرى إمكانية تطبيقها على العديد من الحالات الأخرى، التي كان التضامن القائم على القرابة فيها أمراً مهماً في تكوين الدولة، وتشمل هذه الحالات جغرافياً: شمال إفريقيا وغرب وسط آسيا، وشمال الهند، والصين، والغرب الأمريكي.
يوضح الكتاب أن النظريات الاجتماعية لا تولد ناجزة وتامة، ومع أن نظرية ابن خلدون قد حظيت ببعض الاهتمام مبكراً، إلا أن التقليد الخلدوني قد تعرّض للإهمال مع مجيء الدولة الحديثة ومع هيمنة نظرية التحديث التي افترضت أفول البنى الاجتماعية التقليدية، وذوبان سائر المكونات الاجتماعية في بوتقة الدولة الحديثة.
المركزية الأوروبية
يركز الكتاب على نقد المركزية الأوروبية، والسعي في سبيل تجاوزها، وتوفير بدائل أصيلة، فنجد المؤلف يتحدث عن «التبعية الأكاديمية» وشيوع «العقل السجين» لدى مفكري العالم الثالث، وهو ما يقف حائلاً بينهم وبين البناء على تراث أجدادهم، واستخراج مقاربات نظرية خاصة بهم، تناسب مجتمعاتهم وتفاعلاتها الذاتية.
الحجة الأساسية لهذا الكتاب هي وجود علم اجتماع حديث يمكن أن يعاد بناؤه من خلال كتابات ابن خلدون، من شأنه أن يكون ذا أهمية كبيرة وقابلية للتطبيق في دراسة التاريخ والمجتمع المعاصر، لكن إعادة البناء تلك وذلك التطبيق لم يتحققا بوجه عام، بسبب الإهمال النسبي لابن خلدون بوصفه منظّراً، ويعمل هذا الكتاب على علم الاجتماع التاريخي لمفكر جرى إهمال مرجعيته النظرية في موضوعه، وإغفال أهميته المحتملة في الأزمنة والأمكنة اللاحقة لزمانه ومكانه، لكن لماذا استبعد مفكر اجتماعي كابن خلدون من الدراسة الجادة لتاريخ علم الاجتماع أو النظرية الاجتماعية أو علم الاجتماع التاريخي؟
كان علماء الاجتماع الغربيون في القرن ال 19 وأوائل القرن ال 20 أكثر وعياً بدور الفكر غير الغربي في تطوير علم الاجتماع الغربي إلى مجال مستقل، وسوف يتبين أن هذا الاهتمام قد تضاءل واضمحل أكثر في القرن ال 20، واستمر ذلك حتى اليوم، وكان لمؤسسي علم الاجتماع الأوروبيين في القرن ال 19، مثل ماكس فيبر ودوركهايم تأثير كبير في تطور علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية الأخرى، إلى درجة أن العديد من النظريات والنماذج المستمدة من أعمالهم طبقت على مناطق خارج أوروبا، أي على العالم غير الغربي، ولم يعمل بهذا التوجه مع المفكرين الاجتماعيين غير الغربيين ودون الإشارة إلى أن الأفكار الأوروبية أو الغربية لا صلة لها بالواقع غير الأوروبي، ويقترح المؤلف أنه ينبغي النظر في المصادر المتعددة للفكر الاجتماعي ونظريات علم الاجتماع.
توفي ابن خلدون قبل أكثر من 600 عام لكن أفكاره لا تزال باقية، ومع ذلك فقد تعرّضت لنوع من الاستيلاء والمصادرة أدى إلى تهميش رتبته إلى حد ما في علم الاجتماع المعاصر، وما يقال هنا عن وضع الدراسات المتعلقة بابن خلدون في الغرب يصدق أيضاً على العالمين العربي والإسلامي.
0 تعليق