«الثلث».. الحروف تعزف موسيقى العين - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كثيراً ما يخلط الفنانون بين الإبداع في مجال الخط العربي وفن الزخرفة، ما يتيح لهم خيارات فنية متعددة، يستطيعون من خلالها تقديم أعمال متقنة، متسمة بالعمق الدلالي والجمالي معاً، ومن هؤلاء الفنان اللبناني الدكتور جمال نجا.
يعتبر د. جمال نجا واحداً من الفنانين الذين تمكنوا من إتقان الخط العربي بفضل الموهبة، واستطاعوا الإحاطة بهذا الفن مع فن الزخرفة من خلال الدراسة الشخصية والأكاديمية، حتى وصل إلى مكامن الجمال في الفنين، وخاصة الخط، الذي استكشف من خلاله أثر البيئة والنسب الجمالية الذهبية التي تتمتع بها الحروف العربية وخطوطها، وما تتميز به خصائصها من تناسب في الكتلة والفراغ، بالإضافة إلى الدلالات والرموز، والنظرة الفلسفية التي يمكن تحميلها إياها، وذلك من خلال كل أساليب الخط، بمختلف أنواعه، وهو ما جعله يستثمر خلفيته الزخرفية لإضفاء المزيد من الألق على أعماله في هذا الفن الكتابي الجميل.


* دِقَّة 
اختار نجا أن يخط في لوحته نص الآيتين 25 و26 من سورة طه، حيث يقول تعالى في قصة موسى عليه السلام مع فرعون‏:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}‏، وقد كتب كلّ كلماتهما باستثناء «قال»، مُبقياً على دعاء النبي موسى الذي لا يزال دعاء لكل المؤمنين، فقد قاله عليه السلام حتى يثبّته الله فلا يخاف غيره، لأنه كان يخشى فرعون لكفره وجبروته وشدة بطشه، وكان يضيق صدراً بما كلف من مواجهته، فسأل الله أن يوسع قلبه للحق حتى يطمئن أن لا أحد يقدر على ضره إلا بإذن الله، فهو إن أدرك ذلك لن يخاف فرعون، كما سأله أن يسهل عليه أمره، فصار هذا دعاء كل مؤمن ليسهل الله عليه كل سبيل يسلكه، وكل أمر يقصده، وليهون عليه الشدائد، فمن تسهيل الأمور أن يُيَسَّر للداعي أن يأتي جميع الأمور من مآتيها الصحيحة، ويخاطب كل أحد بما يناسب تفكيره.
وقد كتب نجا البسملة بخط ديواني صغير أعلى النص المشكّل لمتن اللوحة، بينما اشتغل على كتابة نص الآيتين بخط الثلث العادي، وذلك لما يتميز به هذا الخط من قابلية للتجديد والإبداع الجمالي، رغم صعوبة تنفيذه، فهو من أكثر الخطوط وضوحاً ودقَّة في القواعد والموازين، ويمنح الخطاط مرونة في كتابة الحروف والكلمات، وفرصة لإبراز براعته في التأليف، كما يتيح الابتكار والتنويع في التراكيب، وهو ما جعل خطاطنا يستخدمه بخلفية زخرفية؛ محاولاً إيصال رسالته الفنية المستوحاة من مضمون النص المخطوط، ليحقق هدفه بالإيحاءات البصرية العميقة التي توغل في مخيلة المتلقّي.
* شكل مزدوج 
صمّم نجا لوحته في شكل مزدوج، حيث جعل الخلفية بساطاً مفروشاً بالزخارف، التي تشير إلى هموم صاحب الدُّعاء، وأحاط تكوينه الخطي المستطيل بإطار مستطيل أيضاً؛ مكوَّنٍ من خطين يتقاطعان حول كل زاوية، حيث كتب النصَّ داخله، فبدأ بكتابة «رَبِّ» أسفل الجانب الأيمن من التكوين، للدلالة على أن النص دعاء يتوجّه فيه قائله إلى ربِّه، وكل ما سيأتي يرتبط بهذا اللفظ المحقِّق لعبودية الله، ثم كتب فعل الأمر «اشرَح»، وهو هنا بمعنى الرجاء، لأن الأمر لمن هو أعلى تَذلُّلٌ له، ورغبة في تحقيقه ما يُرجى منه، ثم كتب «لي» و«صدري» رابطاً حرف الياء بحرف الصاد في كتابة مستمرة، ليظهرا وكأنهما كلمة واحدة، في إتقان وتمكّن من ناصية الحرف، وليشير إلى إلحاح الدّاعي من أجل تحقيق رجائه لنفسه، حيث لم يكتفِ بقول: «صدري»، بل قال معها: «لي» حتى يكون في كامل التركيز واليقين على ما يقبل على الدعاء من أجله، في ما كتب ياء «صدري» في الأعلى بشكل ممدود على طول التكوين الخطي، وكتب الواو متوسطة بين فِعْلَيْ الأمر، اللذين كتب ثانيهما «يَسِّر» على نفس المستوى الذي كتب فيه «اشرح»، ليوحي بنفس المعنى السالف معه، ثم كتب «لي» الثانية على نفس هيئة الأولى وفي مقابلة تامة معها، لتحقيق التناسق البصري، وكتب «أمري» متصلة بها لتأكيد المعنى السابق لرجاء الداعي مع «صدري»، بينما كتب ياء «أمري» في الأعلى مُرَكبة على ياء «صدري» ومشاكلة لها في كامل هيئتها، لتأكيد الرغبة في تقبل الدعاء الشخصي للمتكلّم.
وقد أبدع نجا في كل تفاصيل عمله، محدثاً تناسقاً بصرياً تاماً، نشأ عن التآليف بين الخط والزخرفة من جهة، وبين الألوان المتدرجة التي اختارها من جهة أخرى، بالإضافة إلى تموضع الألفات والنقاط الذي لم يكن اعتباطياًَ، ليمنح المشاهد ألَقاً جمالياً يستحق التأمل.
* إضاءة 
ولد د. جمال نجا سنة 1967م، وهو حاصل على الليسانس في الحقوق من الجامعة اللبنانية، والماجستير في الهندسة الداخلية والفنون الزخرفية، من كلية الفنون الجميلة والعمارة في ذات الجامعة، سنة 1994، ودكتوراه في الدراسات الإسلامية من جامعة بيروت الإسلامية / قسم الاقتصاد الإسلامي، سنة 2008، ودكتوراه في موضوع قواعد الخطوط العربية من جامعة الروح القدس - الكسليك، سنة 2009، ويعمل مدرساً لمواد الخط العربي والزخرفة؛ مشرفاً على رسائل الماستر في كلية الفنون الجميلة والعمارة في الجامعة اللبنانية، وقد حصل على العديد من الجوائز الدولية في الخط العربي، كما شارك في العديد من المؤتمرات والمعارض الخطية والفنية، وألقى الكثير من المحاضرات في عدد من الدول، وله عدد من الدراسات والأبحاث المحكمة وسلسلة في تحسين خطوط الكتابة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق