السياسة نسيج معقد تتشابك فيه الأسرار مع المصالح، وتتقاطع الطموحات الفردية مع التحولات المصيرية للدول، لتخلق ميداناً تتصارع فيه الأفكار والقوى، وتتشكل فيه ملامح المستقبل وسط تناقضات لا تنتهي.
في كتابه «كيف لا تكون سياسياً: مذكرات»، يقدم روري ستيوارت مذكراته السياسية، التي تجمع بين الكشف الصادق والرؤية العميقة لتجربة العمل السياسي في المملكة المتحدة خلال فترة عصيبة من تاريخ البلاد. يفتح ستيوارت نافذة على السياسة بعيون شاهد ومشارك، من خلال نبرة حيادية تتخللها لمحات من السخرية والحب العميق للخدمة العامة.
روري ستيوارت، شخصية سياسية غير تقليدية، بدأ حياته دبلوماسياً ومغامراً، واشتهر بمسيرته الطويلة سيراً على الأقدام عبر آسيا، بما في ذلك أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر. في عام 2009، قرر الانتقال إلى العمل السياسي، متخلياً عن منصبه الأكاديمي في جامعة هارفارد، ليترشح للبرلمان البريطاني.
يكشف ستيوارت في كتابه هذا عن تفاصيل تجربته السياسية، مسلطاً الضوء على التحديات اليومية التي يواجهها السياسيون في عصر الشعبوية السطحية. يروي الأحداث من الداخل، بما في ذلك تصاعد الحركات الشعبوية وصعود زعماء مثل ديفيد كاميرون وبوريس جونسون وليز تروس، وما أفرزته هذه الحقبة من أزمات سياسية، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
شهد ستيوارت من خلال ستة مناصب وزارية، التحولات العميقة داخل حزبه المحافظ، والتي دفعته في النهاية إلى الترشح لمنصب رئيس الوزراء. يبين في الكتاب كيف دخل في منافسة مع بوريس جونسون، ليقدم رؤية مفعمة بالتساؤلات حول مسار الديمقراطية وأزماتها، وكيف يمكن إصلاحها.
يقول في مقدمة الكتاب: «إن حكومتنا وبرلماننا اللذين كان بإمكانهما الادعاء بشكل معقول أنهما الأفضل في العالم، يمران الآن بحالة يرثى لها. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن المطلعين الآخرين، سواء كانوا يهتمون بصداقاتهم، أو سمعتهم، أو حياتهم المهنية المستقبلية، أو ببساطة كانوا أكثر لباقة مني، يستمرون في إخفاء هذا التدهور المروع».
يبدأ الفصل الأول من كتابه بالقول: «بدأت خدمتي في الحكومة لأول مرة عام 1991 عندما كنت ضابط مشاة اسكتلندياً يبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً في خدمة محدودة قصيرة الأجل. كنت في إندونيسيا دبلوماسياً بريطانياً خلال سقوط الرئيس سوهارتو عام 1998؛ وشاركت في التدخلات الدولية في البوسنة وكوسوفو وأفغانستان؛ وقضيت عاماً ونصف العام أمشي بمعدل عشرين إلى خمسة وعشرين ميلاً يومياً عبر إيران، وأفغانستان، وباكستان، والهند، ونيبال. كانت مسيرتي المبكرة في عالم بدا أنه يصبح أقل عنفاً وأقل فقراً بسرعة، وفيه بدا أنه من الممكن حتى «القضاء على الفقر». دخلت العراق مؤيداً للحرب بناءً على أننا نستطيع إنشاء مجتمع أفضل، لكن كان ذلك من أعظم أخطائي في الحياة».
وأخيراً، يعبر عن مشاعره عند مغادرة السياسة قائلاً: «تركت السياسة بحب كبير تجاه دائرتي الانتخابية، واحترام وإعجاب بكفاءة وخيال وشجاعة العديد من زملائي، إضافة إلى صداقات دائمة. لكن إحساسي النهائي هو الشعور بالخجل. وخجلي غالباً ليس بشأن انفتاحي، بل حول عدم قدرتي على أن أكون أكثر وضوحاً في إدانتي».
يقدّم الكتاب تجربة سياسية مكثفة، مملوءة بالاعترافات، ويتيح للقارئ نافذة لفهم تعقيدات السياسة البريطانية الحديثة، كما أنه يشكّل دعوة للتأمل في جوهر الديمقراطية ودور القيادة السياسية في صناعة المستقبل.
0 تعليق