"نيلز" وكتاب الدراسات الاجتماعية! - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

عندما طلبت ابنتي مساعدتي في شرح بعض ما استعصى عليها في كتاب الدراسات الاجتماعية، ارتعبتُ من كمية الحشو المركب، من اللغة المقعرة، التي تدفعُ إلى حالة من اليأس والقنوط. إذ لا يمكن لصفحة أن تمضي دون أن تُكلل بمعلومات شديدة التفرع والإسهاب، وكأنّ الغرض الوحيد من تعلم هذه المادة كامنٌ في ملء خزانات العقول الصافية بوابلٍ من التلقين المزعج والمضر والمحبط !

مضيتُ أنتقلُ معها من درس إلى آخر، فاقدة الشعور بالقيمة والمعنى، ثمّ سألتُ نفسي بشيء من الأسى العميق: كيف يمكن لهذا النصّ أن يُخاطب عقول أبنائنا الوثابة والمتطلعة في عالم متسارع التحولات؟

أخبرني ابني الذي يكبرها بأعوام، عندما استعنتُ برأيه: «المسألة تكمن ببساطة في حفظ كل هذه الوحدات عن ظهر قلب، ثمّ نسيانها بمجرد أن يُنجز الامتحان». وعلّق ابني الآخر: «الغرض الوحيد من المادة هو الحصول على الدرجة وحسب!».

وآنذاك جلستُ بينهم وقررت أن أحكي لهم قصّة. ففي طفولتي شاهدتُ مسلسلًا كرتونيًا، لا يمكنني نسيانه أبدًا، «مغامرات نيلز»، مسلسل «إنمي» أنتج في اليابان عام ١٩٨٠. لم أكن أدركُ أكثر من عذوبة القصّة وطرافتها آنذاك. وعندما كبرتُ أكثر، اكتشفتُ بأنّ النصّ، كُتب قبل مائة عام من الآن، لكن ما أذهلني أكثر أنّه كُتب لأغراض تعليمية - كما تذكر العديد من المصادر- فعندما لاحظ الاتحاد الوطني للمدرسين في السويد الكراهية الشديدة التي يكنها الطلبة لمادة الجغرافيا، قاموا بتكليف الكاتبة السويدية سلمى لاجرلوف -الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب ١٩٠٩- بتأليف كتاب يتمكن من لفت انتباه الطلبة إلى كل ما يتعلق بالسويد، المكان والحكايات الشعبية، المدن وتاريخها، مرورًا بالعادات والتقاليد والفنون. راقت الفكرة للكاتبة لاجروف، فذرعت السويد في رحلة امتدّت لثلاث سنوات. فتمكنت من لمس الجذور الأكثر عمقًا، ثمّ صيّرتها لشيء بالغ الفتنة، فاخترعت القصّة التي خلدت، وأصبحت جزءًا من تكويننا نحن أيضًا. نحن الذين نقبعُ في الجهة الأخرى من ذلك العالم، والذين نجهلُ حياتنا الثرية بسبب تسطيح العملية التعليمية، وأيضًا لأنّ أحدًا لم يقصّها كما ينبغي!

كُتب الكتاب في جزأين، وتُرجم إلى لغات عدّة، وتحول إلى مسلسل كرتوني تابعناه بدأب وفضول عارمين. وبذلك أحدثت عملية القصّ أثرًا فوق التصور. لقد نفخت لاجرلوف في القزم الصغير «نيلز» أعجوبة ألقت بكل التنظيرات الجافة والمجحفة جانبًا. آزر «نيلز» سربُ طيور مهاجر، كمحرك ديناميكي لنمو الحكاية التي تتنوع فيها صنوف المعرفة. وهكذا تمكنت لاجروف عبر قزم صغير من ربط الطلبة بقصّة حضارتهم ولغتهم، طعامهم وحقولهم وبحيراتهم، وكل تنوعهم اللهجي الحي، فتجاوز «النصّ» غرضه التعليمي الضيق إلى ما هو عالمي راسخ. فبدا الأمر كمن يصهر معادن البلاد، ليصنع قطعة فريدة من نوعها. قطعة تبرز سردية تشع من عمقها.

وعلى حد تعبير الكاتب إبراهيم العريس فإن النزعة التعليمية لم تسلب الكتاب نزعته الإنسانية. فقوة الكاتبة جاءت من استخدام لغة الحياة وليس لغة القواميس الجامدة والميتة.

أتذكر بقوة تعلق جيلي وانجذابه إلى «نيلز». كنا نُحلق مع القائد «آكسا» في سعادة لا محدودة، ومن مكاننا الشاهق كنا نتلقى شكلا من المعرفة دون أن نعي ذلك. كانت المعرفة تذوب في نسيجنا وتتركُ علاماتها حتى اللحظة.

التحول لم يكن يُصيب المكان وتفاصيله وحسب، بل كان يعبر كنهر حي في شخصية البطل «نيلز»، وكأنّ غرورنا الفارغ يتضاءل أمام تدفق المعرفة. فـ«نيلز» تحول إلى قزم عندما لم يُقدر قيمة الحياة من حوله، لكن الرحلة التي غرف من ينابيعها اللانهائية مُحلقًا فوق ظهر «مورتن» جعلته يتحرر من اللعنة مستعيدًا حجمه الطبيعي.

وإن كنتُ قد حدثتُ أبنائي عن استدراك لافت لكارثة تعليمية كادت أن تحصل في السويد قبل أكثر من مائة عام، فقد أخذوني بدورهم في رحلة مُماثلة إلى المعرفة المنسابة والسائلة في عالم التقنيات الحديثة والألعاب. فحتى الألعاب اليوم باتت حاملًا معرفيًا خصبًا، وسلاحًا ذا حدين، ولذا ليس علينا أن نتعجب من ذعرهم من حالة الانفصال الحادة التي يكابدونها. فبينما تهز العالم وتحركه مُحرضات معرفية جديدة، نحشي رؤوس الأبناء بالمعلومات كما نحشي الدمى الصماء بالقطن!

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق