برغم أن الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط تشهد تقاطعات وصراعات مصالح متقاطعة بالنظر إلى صراع المصالح، وتنافسها بشكل يكاد يكون غير مسبوق بين دول هذه المنطقة، وذلك بحكم التقاء مصالح أطراف عديدة على مدى سنوات عدة، وما طرأ على هذا الوضع من تغيرات ظلت تدور في الإطار القديم إلى حد كبير دون تغيير حقيقي في الواقع مكتفيا بحديث التحرر الوطني الذي لم تجد الشعوب منه جوهره الحقيقي في معظم الأحيان بعد أن وجدت نفسها ضحية صراعات جديدة تسعى من ورائها إلى وراثة القوى السابقة على أمل أن تحل محلها وتستمتع بما كانت تستمتع به من قبل وذلك بناء على حجة أنها قوى وطنية وصاحبة حق في السيطرة على البلاد وإدارتها حسبما تريد وتراه صالحا لها بغض النظر عن مصالح المجموعة المشروعة، ولعل ذلك يفسر في جانب منه على الأقل جانبا من صراعات ومنافسات القوى الجديدة المتطلعة إلى بناء قوة جديدة نادرا ما تملك مقوماتها وهو ما أوقعها بسهولة في شباك القوى القديمة بذريعة الصداقة التاريخية والمصالح القديمة والممتدة منذ سنوات طويلة.
وبحكم هذا الواقع المأساوي تتنافس دول وقوى عديدة على أمل أن تبني لنفسها مكانة ولو نظرية بين دول المنطقة. وقد تبدأ خطوة أو بضع خطوات ولكنها لا تستطيع إكمالها بحكم ظروفها أو قصور إمكانياتها فتبدأ في البحث عن أصدقاء أو غطاء لأصدقاء لبناء علاقات تحالف بدرجة ما وعلى نحو يدور حول قوة رئيسية تتوفر لها قدرة مالية أو تسليحية توظفها لخدمة الدول الأطراف التي تخدم الدولة التي تلتف حولها الدول الأخري ذات المصلحة في تكوين الحلف أو التجمع الجديد الذي يضم الدول الجديدة وقد شهدنا في المنطقة نماذج لذلك بمسميات مختلفة .
جدير بالذكر أن هذا الوضع الجديد فتح المجال أمام نشوء وتطور الصراعات والمنازعات، وحتى التهديد بحروب ومواجهات إقليمية وأوسع من ذلك إذا لم يعد الجميع إلى رشده ويحاول كل طرف القيام بدوره لتهدئة الأوضاع ومنع التصعيد لمصلحة مجموع الدول وليس لمصلحة بعضها فقط . وفي هذا المجال فإن قوة الدول تختلف من حيث قدرتها على القيام بدور للتهدئة أو لدفع الأوضاع على طريق التهدئة والاحتواء ومحاولة دفع المشكلة على طريق الحل الممكن والمقبول بشكل أو بآخر حتى يمكن السير خطوات على طريق الحل الممكن أو المحتمل على الأقل وتجدر الإشارة إلى واحدة من الحقائق الأساسية، وهي أن الدول المؤثرة أو ذات النفوذ عادة لا تتطوع أو لا تقوم بدور للعمل على حل مشكلة ما إلا إذا كانت لها مصلحة ما في ذلك بشكل أو بآخر لها أو لخدمة احد أصدقائها من ناحية أو للتمهيد لإعادة ترتيب الأوضاع في منطقة أو بين مجموعة دول في ظل تصور جديد بقيادة تلك القوة أو بدعم قوي منها وحماية مصالحها والدفاع عنها وحماية أصدقائها على نحو أو آخر، وهنا تحدث منافسات وصراعات بحكم اختلاف وتنافس المصالح ورغبة كل دولة في حماية ما تراه في صالح حاضرها ومستقبلها وكذلك في صالح بناء تحالفات جديدة أو تعزيزها والاستقطاب الحادث بين إسرائيل وإيران من ناحية وبين إسرائيل ولبنان من جانب آخر. واصطفاف عدد من الدول وراء كل طرف هو أمر بالغ الدلالة في هذا المجال وما يمكن أن يتمخض عنه في إطار العلاقات بين الأطراف المعنية ومصالحها بالطبع.
وإذا كانت المنطقة تعاني من مواجهات وحروب متفاوتة في السودان، بين قوات الجيش السوداني بقيادة عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان أوجلو (حميدتي) وكذلك المواجهات التي لم تتوقف بين بني غازي وطرابلس ووجود اكثر من حكومة في ليبيا والأوضاع في اليمن والانقسام الذي يسعى الحوثيون إلى الاستفادة منه في مهاجمة السفن الغربية المتجهة إلى إسرائيل لدعم المقاومة الفلسطينية ومحاولة وقف الحرب الإسرائيلية الهمجية في قطاع غزة وكذلك حرب الإبادة الجماعية في غزة من جانب القوات الإسرائيلية، حيث يريد نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل استمرار القتال في غزة وجنوب لبنان لخدمة مصالحه الشخصية بالدرجة الأولى وهو أمر لا يختلف عليه أحد.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يمكن أن تشهد أي من هذه المشكلات في الفترة القادمة دفعا على طريق الحل، ليس فقط بالنسبة للحرب في أوكرانيا المشار إليها أو غيرها ولكنه في هذا الإطار فانه أيضا بالنسبة للحروب والمشكلات الأخرى . وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى ما يلي:
أولا، انه ليس من المبالغة في شيء القول أن الأسابيع الأخيرة تشهد في الواقع نوعا من الإرهاصات بشأن إمكانية وقف القتال في لبنان والاتجاه نحو تطبيق القرار الدولي رقم 1701 صحيح أن المشاورات والمفاوضات لا تزال جارية وان المبعوث الأمريكي للبنان هوكستين يقوم هذا الأسبوع بزيارة لإسرائيل ولبنان ولكن الصحيح أيضا انه ليس هناك مسألة محسومة ومضمونة بالنسبة للحل برغم التصريحات المتفائلة لأن نتنياهو يريد أن يجعل من جنوب لبنان رهينة في يده إلى طول فترة ممكنة وليس هناك مشكلة بالنسبة إلى نتنياهو في نقضه لكلامه وما سبق أن وافق عليه فهذا حدث كثيرا من قبل وبمبررات واهية في الواقع . ولكن هل سينفذ وعده الذي اعلنه قبل أيام من انه سيقدم لبنان هدية لترامب بمناسبة توليه السلطة في عشرين من يناير القادم؟ الواقع انه برغم حديث نتنياهو هذا إلا أن ما كان يحتمل مجاملة ترامب وربما كان الأجدر الاعتراف من جانب نتنياهو وإسرائيل بفضل بايدن والولايات المتحدة في الوقوف على جانب إسرائيل بل وحمايتها ضد هجمات السابع من أكتوبر العام الماضي وتزويدها بالأسلحة والمعدات التي وصلت إلى إسرائيل بما فيها حاملات الطائرات والقاذفات الثقيلة من طراز بي 52 وهو ما تكرر بشكل أو بأخر عندما هاجمت إيران إسرائيل مرتين والمرة الثالثة لا تزال مؤجلة ؟ على أية حال فان نتنياهو استنفذ بايدن إلى حد كبير وهو يستعد لابتزاز ترامب والحصول منه على اكبر قدر من المساعدات في الفترة القادمة وهو لا يستعجل ذلك فهل سيمنح نتنياهو جائزة لبنان لترامب القادم أم لبايدن المغادر ؟ المؤكد أن مصالح نتنياهو مع ترامب أكبر منها مع بايدن ونتنياهو يدرك ذلك ويمكنه استغلاله.
ثانيا، تعد الحرب في أوكرانيا من القضايا التي أكد ترامب قدرته على وقفها سريعا بعد توليه السلطة كما اكد زيلينسكي أن عام «2025سيكون عام السلام و«بالوسائل الدبلوماسية» وهي مفارقة. ومع انه لم يوضح كيف سيمكنه ذلك إلا انه أشاع الأمل في قدرته الفائقة رغم أنها ليست مضمونة أيضا وخلال الأيام الأخيرة حدث جدل كبير حول إمكانية وقف الحرب في أوكرانيا وشروط الرئيس الأوكراني زيلينسكي لوقف القتال الذي قال انه سيكون في غام 2025 وانه يجب أن يكون «بالطرق الدبلوماسية« « وهي مفارقة لأن زيلينسكي تحدث عن صعوبة الأوضاع على الجبهة الشرقية، وفي هذه الحالة من الصعب الحديث عن مواقف معتدلة أو حتى متوازنة وهو ما يجعل موقف ترامب صعبا بالنسبة لوقف القتال بسهولة خاصة إذا وضعنا في الاعتبار شروط الرئيس الروسي، وعلى أية حال فان ترامب سيسعى جاهدا لان يحقق بعض الخطوات في أوكرانيا وبقدر لا يخسر بوتين لا في أوكرانيا ولا في مستقيل التعاون مع ترامب ولا في ضم أوكرانيا إلى حلف الأطلنطي وهو ما يعارضه بوتين بشدة أيضا. أما زيلينسكى فانه نجح فقط في خسارة أوكرانيا وتخريب بنيتها الأساسية ولن يعوضها أي شيئ إلا ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الروسي. ولكن هل يوافق زيلينسكي وهل توافق واشنطن وباريس وبون ولندن أنها بالفعل قضية معقدة إلى حد بعيد ومع ذلك دعونا لا نفقد الأمل لعل العالم يدخل مرحلة جديدة يطبق فيها ترامب شعاراته دون خسائر. أما بقية القضايا في المنطقة والعالم فلا احد يستعجلها إلا في التصريحات، والشعوب لها الله.
0 تعليق