تدهور الإنتاجية الفكرية - ستاد العرب

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أحمد مصطفى
من أكثر أسباب التباطؤ الاقتصادي العالمي وتراجع آفاق النمو، غير كل العوامل التي تقرأ وتسمع عنها يومياً في التحليلات والتعليقات، تدهور معدلات إنتاجية العاملين في مختلف القطاعات خاصة في الدول الموصوفة بالمتقدمة.
ويرى عدد من الاقتصاديين المخضرمين أنه لا علاج لاختلالات الاقتصاد الهيكلية من دون العودة إلى زيادة الإنتاجية، وأنه رغم التطورات التكنولوجية الهائلة فإنّ نمو الإنتاجية في تراجع مستمر على مدى الأعوام الأخيرة.
الواضح أن ما ينطبق على الاقتصاد لا يختلف عما يجري في السياسة وغيرها من نشاطات البشرية. ربما لا يكون هناك تراجع في إنتاجية الأفكار في مجالات السياسة وإدارة المجتمعات والدول من ناحية الكم، لكن الكيف في تدهور مضطرد أيضاً في السنوات الأخيرة إلى حد مخيف. وأيضاً رغم التطورات التكنولوجية وابتكارات الذكاء الاصطناعي فإن زيادة الكم يقابلها انخفاض الكيف والجودة.
من يتابع موقف قيادات الأعمال في الولايات المتحدة من مرشحي الانتخابات الرئاسية يخلص بسهولة إلى أنهم لا يثقون في أن أياً من المرشحين، الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب أو الديمقراطية نائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس، سيحدث فرقاً مهماً في السياسة الاقتصادية لأكبر اقتصاد في العالم.
بالنسبة لنا في المنطقة فالاعتقاد السائد، وهو صحيح إلى حد كبير، أن التغيير الرئاسي كل أربع سنوات في الولايات المتحدة لا يعني الكثير بالنسبة للسياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط. فدعم إسرائيل مستمر وهو الأولوية لأية إدارة ديمقراطية كانت أم جمهورية. وبالمقابل يكون ذلك على حساب حقوق العرب والفلسطينيين.
إنما بالنسبة للأمريكيين فهم لا يصوتون على أساس موقف المرشحين من القضايا الخارجية، ما لم تكن تمس حياتهم اليومية مثل الصراعات التجارية التي قد ترفع الأسعار أو تحد من عائد الاستثمار وما شابه. والفيصل بالنسبة لهم هي السياسات الداخلية، الاجتماعية والاقتصادية بشكل أساسي.
وهذا ما يتحدث عنه نفر قليل من العقلاء بأن الواضح من التصريحات والآراء والتوقعات المبنية على السلوك السابق أن أياً من المرشحين لن يحدث فرقاً كبيراً. يربط البعض ذلك بمنحى التراجع في السياسة بشكل عام، ليس فقط في أمريكا بل في العالم كله تقريباً، منذ الربع الأخير من القرن الماضي. ويرى آخرون أن نهاية الحرب الباردة خلقت فراغاً هائلاً لم تملأه قوى سياسية ذات قيمة، عالمياً وحتى في الدول الوطنية ذاتها. وهناك عوامل أخرى كثيرة يتحدث عنها المحللون والمعلقون، لكن الخلاصة أن هناك تدهوراً سياسياً بشكل عام.
الأخطر، كما ذكر صديق من العاملين في مجال البحث والنشاط الأكاديمي في الغرب، هو أن هذا التدهور في الإنتاجية الفكرية لم يعد قاصراً على مؤسسات الحكم في الدول الغربية بل اتسع حتى شمل أيضاً مراكز البحث والدراسات التي تعد تقليدياً الداعم الأهم لصناع القرار في السلطة. بل إن هناك شعوراً بأن مناخ التدهور والتراجع انسحب أيضاً على مجال الأعمال، أي شركات الاستشارات وأفرع البحث والتوقع في المؤسسات المالية الكبرى وغيرها.
لطالما اعتدنا أن نقرأ ونسمع عن أن الدول الغربية الديمقراطية تحكمها «المؤسسات» وليس الأشخاص، فالسياسيون يتغيرون وتبقى مؤسسات الدولة مستمرة. كما أن تلك المؤسسات والسياسيين المتغيرين يعتمدون على ما تنتجه مراكز البحث والدراسات عند وضع السياسات واتخاذ القرارات. لكن من الواضح أن تغيراً بطيئاً بدأ منذ عقود وأصبح واضحاً تماماً الآن.
فلم يعد الجهد البحثي خلاقاً كما كان، ولا تكاد تجد بين منتجات المراكز والمعاهد المحيطة بالسلطة على استقلالها ما يحمل جديداً. ففي الأغلب الأعم ليس الناتج سوى «إعادة تدوير» لما أُنتج من قبل مع بعض التعديل ليبدو متسقاً مع أوضاع اليوم. لذا، لا غرابة في أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل «تشات جي بي تي» وغيرها لا تنتج سوى ما هو متاح من محتوى على الإنترنت كما يجري تدريب برامج الكمبيوتر المتقدمة تلك. وبما أن قدراً كبيراً مما على الإنترنت ليس سوى هراء وكلام فارغ فالنتيجة أن ما تحصل عليه، وإن كان محكماً لغوياً وأسلوبياً إلا أن مضمونه مجرد إنشاء مبهر.
المثير في الأمر، أن مراكز الأبحاث والدراسات الأمريكية في السنوات الأخيرة اتبعت مقولات السياسيين في الموقف من أوروبا – أي اعتبار القارة العجوز شاخت ولم تعد مبدعة كما كانت من قبل. وبالتالي تراجع اعتماد تلك المراكز في أمريكا وكندا وغيرها على التعاون الوثيق مع نظيراتها الأوروبية.
وكانت النتيجة أن منحى التدهور في الإنتاج الفكري تسارع في الناحيتين. وإن ظل معدل التدهور في أوروبا أقل نسبياً لأن مراكزها ما زالت تعتمد بعض الأسس والقواعد التي قد يصفها الأمريكيون ومن يتبعونهم بأنها «عفا عليها الزمن».
إن هذا التدهور في الإنتاجية الفكرية، وإن اعتبره البعض نتيجة لتراجع سياسي بشكل عام إلا أنه أيضاً أحد أسباب التدهور السياسي/الاجتماعي/الاقتصادي في العالم. إنها دائرة مكتملة من تداخل الأسباب والنتائج ويحتاج كسرها ووقف التدهور إلى صدمة هائلة تقترب من حرب عالمية. وكما علّمنا التاريخ أن الانتعاش الاقتصادي الكبير يأتي غالباً بعد صراع عالمي واسع وركود وكساد، فإن ذلك قد يصلح للمقارنة أيضاً مع السياسة والفكر.
[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق