بحثاً عن مستقبل لبنان - ستاد العرب

0 تعليق 0 ارسل طباعة تبليغ حذف

د. نسيم الخوري

يشغل لبنان بجراحه الثخينة العرب والعالم ودول الخليج تحديداً الحضن الأقرب الدافئ للأولاد والأحفاد، لبنان في ضياعٍ طال بين لبناني وآخر وموفد وآخر، اليوم يخرجون من المساجد هنا أو يدلفون نحو أبواب الكنائس بعدما أرهقتهم الخسائر البشرية والمادية وتشرذمت العائلات وكلهم يفركون أعينهم بحثاً عن ملامح الغد، لكأنّ معظمهم يحدّق خارج الوطن، مسكونين بسؤال واحد وهم يرقصون في الجراح الطائفية: متى ومن يخرجنا من هذا الجحيم؟ الذي يتوسّع منذ فراغ الجمهورية منذ عامين إثر خروج الرئيس ميشال عون من قصر بعبدا المُقفل الذي عاد يشرّعه الرئيس المنتخب جوزيف عون على الآذان العالمية بقسمه الرئاسي عبر خطاب عهده الشخصي وشرفه العسكري.
صحيح أننا نبحث عن لبنان في خضم التحوّلات الاستراتيجية الدولية الهائلة، تبين ملامحها إثر عودة الرئيس دونالد ترامب خلف مكتبه البيضاوي بثقة وسلاسة رافعاً المقرّرات الموقّعة بين يديه وبالقلم الأسود العريض أمام شاشات الدنيا، لكنّ الصحيح أن الدكتور نوّاف سلام رئيس الحكومة اللبنانية رجل علم وحر يمثّل مستقبل الأجيال وخصوصاً الذين غادروا نحو عواصم الدنيا إثر اندلاع الحروب الأهلية في عام 1975 وعرفناه مميّزاً حيث جمعتنا «المدينة الدولية الجامعية في باريس»، يُكابد في تأليف الحكومة وفقاً للتقاليد الطائفية والمذهبية التي «تجعل الحكومة برلماناً مصغّراً» كما قال.
هكذا يتمطّى الفراغ والقلق ويتراكم الغموض والهمومّ التي عادت تحشو وسائد اللبنانيين عبر تجدّد الحروب في لحظةٍ حرجة تُصرّ إسرائيل على بقاء قواتها في جنوبي لبنان المدمر وقتاً إضافياً بما يتجاوز التفاهم الدولي وتطبيق القرار الدولي 1701.
تتأرجح الأفكار والآراء والنصوص بين النقائض اللبنانية المخيفة، بما يدفعني للتذكير بأنّ أمريكا خرجت من العراق عسكرياً بين 20 مارس (آذار)2020 و9 ديسمبر (كانون الأول) 2021، لكن حذار التبسيط، لأنها لم تخرج من التاريخ العربي المعاصر قطعاً، بانت يومها في شبه خروج من الشرق الأوسط الذي وجد نفسه ينزع شوكه بيديه، باعتبارها خرجت من تاريخ رسمه غيرها وتستمر اليوم بتاريخٍ رسمته وترسمه وسترسمه هي ومن حولها العديد من الدول التي تُشارك وستشارك في فعل الرسم.
كان يمكنها مثلاً إنهاء صدّام حسين بعد طرده من الكويت لكنها تريّثت 10 سنوات لتعود فتوقعه في الحفرة، هكذا تبدو المساحات الشرقية في ملامح الحرب والسلام ملفوفة بضبابٍ استراتيجي كثيف لن تتّضح ملامح المستقبل فيه حتّى وإن بان السلام الموعود متقدّماً. يستغرق المفكّرون والباحثون الزملاء من الأساتذة الجامعيين بلذة الحوار في «الأبستمولوجيا»، أي القدرة على الفرز بين العلم والأيديولوجيا والحقائق التي أشاعها ويشيعها الغرب وبين الخرافات والأساطير وأراهم يهملون المخطوطات والأبحاث في العروبة الممكنة والعروبة المستحيلة ومستقبل العرب عبر قواميس الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وفلسطين ولبنان وغيرهما.
لماذا؟ لأنّ المسلمين والمسيحيين يتعثرون وهم يشقّون طريقهم الوطني نحو لبنان بين الأنظمة والأفكار والأحزاب والأفكار المتعددة المختلفة في عصر من الانفتاح الفضائي الشامل على الحرية والمساواة والحقوق العامة وحقوق المرأة التي صارت عامية وعالمية وهي من «مقدسات» حضارة العصر. المتنورون هنا يديرون ظهورهم لتلك المساحات نصف استدارة، ويرتعبون إن انخرطوا في الفكر والممارسة وحقائق الفرد في بلادهم كما في الغرب فتراهم يتقلّبون فوق استراتيجيات التغيير متأرجحين بين تراثهم البعيد والجديد، أو بين البحث عن العودة إلى الأصوليات في مساحاتهم الخاصة والاستغراق أكثر في الغرب، أو أنهم يجاهرون إحياءً للتوفيق أو الإقرار بالتخالط الطبيعي والمتجدد المُعاصر بين غربٍ وشرق، يبدو الغرب فيه وتحديداً الولايات المتّحدة، وقد مسحت معالم الهندستين البريطانية والفرنسية لسايكس وبيكو في أعقاب الحرب الكونية، لتقدّم هندستها العالمية الخاصة التي لم ولن تتّضح للجميع في زمنٍ قريب، بالرغم من التجارب القاسية والمبهمة التي يمكن اختصارها بضمور المواقد الفلسطينية واللبنانية والعراقية وغيرها بما خلّفته وستخلّفه من مآسٍ وأهوال.
لماذا عدم الوضوح الكامل بعد؟ لمعالم خريطة تشي تضاريسها المرسومة مستقبلاً بأنّ العين الأمريكية انتقلت وستنتقل مجدّداً من مسرح حروب غزّة المساندة من لبنان مسنوداً من إيران إلى مسارح الشرق الأقصى، حيث تتراكم الملفّات هناك من القوقاز نزولاً نحونا ولو بقينا في تخبّط. ستدغدغ الهند بوصفها مشروع دولة عظمى وفقاً للقاموس الدولي المعاصر، وبهذا دغدغة سلبية للصين التي تعد العالم بالتهام الشمس بحثاً عن الطاقة الجديدة، وستذهب قطعاً في الطريق نحو معالجة العلاقات مع أوروبا وهي قد بدأت مع ترامب لسحب يديها الطويلتين من أوكرانيا إلى روسيا بوتين التي بدت عالقة بين طابقين في مصعد التاريخ القريب، أي بين ماضيها ومستقبلها مع أنّ أمريكا، وبالانتظار الصعب، ستقرّر نهائياً حاجة الغرب إلى روسيا المسكونة بل المشتاقة لعظمتها، على الرغم من أن بوتين سبق وفتح قلبه سابقاً في مسائل كثيرة شائكة كالحرب على الإرهاب الدولي ومحاربة الأصوليات الإسلامية، والمشاركة في تأمين الأمن في أوروبا والعالم، والبحث عن سبل استقرار أسواق الطاقة والتفاهم على القاموس حول مستقبل أسلحة الدمار الشامل.

[email protected]

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق